العمالة الفلسطينية في إسرائيل : اتجاهاتها ودوافعها وتأثيراتها

الكاتب: د. ماهر الكرد, صبري يعاقبة, اسلام ربيع
السنة: 2024

 

تهدف هذه الدراسة إلى تحديد الملامح الرئيسية للعمالة الفلسطينية في الاقتصاد الإسرائيلي: اتجاهاتها، ودوافعها، وتأثيراتها، ما يمكّننا من التعرف على القضايا والمحددات التي ستحكم آفاق وإمكانات مستقبل العمالة الفلسطينية في الاقتصاد الإسرائيلي، وذلك من خلال البحث في العوامل الجوهرية التي تمكننا من التعرف على دوافع العرض في الجانب الفلسطيني للعمل في إسرائيل، والطلب في الجانب الإسرائيلي على العمالة الفلسطينية في الاقتصاد الإسرائيلي، والآثار الناجمة عن هذه الظاهرة على الأوضاع الاقتصادية في الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967.

وقد بيّنت الدراسة في سياقها التاريخي لموضوع العمالة، أنه منذ احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة العام 1967، قامت بإخضاعهما إلى الضم الفعلي والقسري إلى الاقتصاد الإسرائيلي، وعزلهما عن محيطهما العربي، واستغلال الأيدي العاملة الفلسطينية الرخيصة. هذا إضافة إلى سياسات السلب والإفقار التي مارسها الاحتلال الإسرائيلي والتي تسببت في إضعاف النشاطات الاقتصادية في القطاعات الإنتاجية، الأمر الذي أدى إلى الحد من قدرة الاقتصاد المحلي على توليد فرص عمل مجزية لقواه العاملة، وأدى، أيضاً، إلى تعميق اعتمادية القوى العاملة الفلسطينية على سوق العمل الإسرائيلية. وعلى الرغم من توقيع اتفاق أوسلو، فإن هذه الاعتمادية لم تتغير حتى يومنا هذا، بسبب عدم التزام دولة الاحتلال بالاتفاقيات.

فيما يخص عوامل العرض والطلب، تستعرض الدراسة الأوضاع الاقتصادية التي أدت إلى تراجع النشاطات الإنتاجية، وبخاصة في قطاعي الزراعة والصناعة، طوال العقود الماضية. هذا التراجع في القطاعات الإنتاجية أدى إلى ارتفاع معدل البطالة، وبالتالي إلى "هجرة" العمالة الفلسطينية من الضفة الغربية وقطاع غزة إلى سوق العمل في الاقتصاد الإسرائيلي. من جهة أخرى، كانت السياسات الإسرائيلية قد حولت الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967 إلى ما يشبه "الفناء الخلفي" للاقتصاد الإسرائيلي، حيث فتحت سوق العمل في الاقتصاد الإسرائيلي للأيدي العملة الفلسطينية الرخيصة التي لا تتمتع بالحماية القانونية في القطاعات الإسرائيلية الكثيفة العمالة، وبخاصة في قطاعي الإنشاءات والزراعة. وبينما تعمقت اعتمادية الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967 على سوق العمل في الاقتصاد الإسرائيلي، فإن قطاعي الإنشاءات والزراعة الإسرائيليين قد أصبحا يعتمدان بشكل متزايد على العمالة الفلسطينية فيهما.

أحدثت السياسات الإسرائيلية آثاراً اجتماعية واقتصادية سلبية، فطوال العقود الثلاثة الأخيرة من الاحتلال، تراوحت نسبة العمالة في الاقتصاد الإسرائيلي بين 20-30% من إجمالي الأيدي العاملة. وخلال تلك الفترة، اتسعت الفجوات المعيشية بشكل سلبي للفلسطينيين بالمقارنة مع إسرائيل. من جهة أخرى، الفوارق الكبيرة في حجم وأداء ومؤشرات الاقتصاد الإسرائيلي مقارنة مع الضفة الغربية وقطاع غزة، انعكست في فوارق كبيرة في معدلات الأجور، حيث تتجاوز معدلات الأجور في الاقتصاد الإسرائيلي ضعفي مثيلتها في نشاطات مماثلة في الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967.

كما أبرزت الدراسة آثار التشوهات الاقتصادية على مستقبل العمالة الفلسطينية في الاقتصاد الإسرائيلي، إذ بيّنت أن اتفاقيات أوسلو وملحقها الاقتصادي، اتفاق باريس، كانت تهدف نظرياً إلى إعادة تأهيل الأوضاع الاقتصادية وبناء المؤسسات خلال فترة السنوات الانتقالية الخمس. إلا أن عدم الالتزام الإسرائيلي بتطبيق بنود الاتفاق، وعدم الالتزام بالمدة الانتقالية المتفق عليها قد حدَّ من قدرة الحكم الذاتي على معالجة هذه التشوهات طوال العقود الثلاثة الماضية. من آثار هذه التشوهات التي تستعرضها الدراسة في فصل خاص بها، إضعاف قدرة الاقتصاد المحلي على توليد فرص عمل مجزية لأكثر من نصف قواه العاملة، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة. ومع أن الحد الأدنى للأجر المقدر بحوالي 530 دولاراً أمريكياً تقريباً يعادل حوالي ثلث الحد الأدنى للأجر في الاقتصاد الإسرائيلي، وهذا لا يتناسب مع تماثل التكاليف المعيشية، فإن المسوحات الحديثة التي قام بها الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني العام 2023، تشير إلى أن ثلث العاملين في القطاع الخاص الفلسطيني يعملون مقابل أجر يقل عن الحد الأدنى للأجر المعتمد في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية. هذه المؤشرات تعكس حقيقة أوضاع يكون فيها الاقتصاد المحلي غير قادر على توليد فرص عمل مجزية لأكثر من نصف قواه العاملة.

ضمن هذا السياق العام، فإن مستقبل العمالة الفلسطينية في الاقتصاد الإسرائيلي والاعتمادية على سوق العمل الإسرائيلية يتحدد بهذه الأوضاع ككل، كما يتحدد بطبيعة التشوهات التي تعاني منها الأراضي الفلسطينية المحتلة من أكثر من نصف قرن. يضاف إلى ذلك سياسة الاحتلال الإسرائيلي في ضم القدس الشرقية، وعزلها عن محيطها الطبيعي ومجالها الاقتصادي الحيوي، وهذا بدروه يؤدي إلى المزيد من إضعاف وإفقار الأوضاع الاقتصادية في الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967.

وأخيراً، تعرضت الدراسة إلى العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، حيث إن هذه الدراسة قد وضعت أهدافها ومخططاتها قبل عدوان تشرين الأول/أكتوبر الأخير. لذا، فقد تم التطرق إلى هذا التطور بشكل مقتضب في خاتمة الدراسة. كانت النتيجة المباشرة للعدوان والمتمثلة في تدمير قطاع غزة وكافة منشآته وبناه التحتية الذي كان يساهم بحوالي 18% من الناتج المحلي الإجمالي، فتحول معظم العاملين في قطاعاته الاقتصادية إلى البطالة، ونتج عن العدوان كذلك نتائج متعددة على الأوضاع الاقتصادية في الضفة الغربية. منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، تم فرض إغلاق شامل على الضفة الغربية، وإلغاء كافة تصاريح العمل في الاقتصاد الإسرائيلي، ما أدّى إلى تحول عشرات آلاف العمال إلى البطالة في الضفة الغربية، كانت مساهمات تحويلاتهم الخارجية تعادل ما يقارب 17% من الدخل القومي الإجمالي. هذا الإغلاق الشامل، إضافة إلى تصاعد هجمات المستوطنين على تجمعات فلسطينية متعددة في الضفة الغربية، وتراجع وانحسار نشاطات الاستيراد والتصدير والتجارة الداخلية، والقرصنة الإسرائيلية على العوائد الضريبية والجمركية المستحقة للخزينة الفلسطينية، تؤدي في مجموعها إلى صدمات اقتصادية قد تكون عميقة الأثر إذا ما تواصلت لشهور عدة أخرى قادمة.

هذه التطورات الأخيرة، وما تعرضت له الدراسة، تعيد طرح مسألة مستقبل العمالة الفلسطينية في الاقتصاد الإسرائيلي، وهنا تكون الخلاصة والنتيجة الأساسية للدراسة بأنه لا يمكن معالجة قضايا العمالة الفلسطينية وفق أولويات التنمية الاقتصادية الوطنية، ما لم يطرأ تغيير جوهري ونوعي على بنية وهيكل الاقتصاد، وإنهاء خضوعه للسياسات الاقتصادية الإسرائيلية، وممارسة السيادة الفلسطينية على الحدود الدولية والأراضي والمصادر الطبيعية، والحق في صياغة وتطبيق سياسات اقتصادية وطنية تحرر الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967 من التبعية والارتهان العميق للاقتصاد الإسرائيلي. تنتهي الدراسة إلى تقديم توصيات ضمن محددات الوضع القائم، تتمحور حول توجيه الاستثمارات الحكومية والخاصة نحو تنشيط وتوسيع مساهمة القطاعات الإنتاجية، في الصناعة والزراعة والإنشاءات، ووضع النظم والقوانين التي تعمل على حماية المنتجات المحلية، باعتبارها الشروط التي لا غنى عنها لتوليد فرص عمل جديدة في الاقتصاد المحلي. كما تقترح الدراسة إعادة تنظيم حركة العمالة الفلسطينية في الاقتصاد الإسرائيلي وفقاً للاتفاقيات الموقعة، بما يؤدّي إلى قيام وزارة العمل بالدور الرئيسي، ما يشكل حماية للعمال من استغلال الوسطاء، وذلك إضافة إلى تعبئة جهود الدول المانحة لدعم جهود وزارة العمل في إلزام إسرائيل بتوفير الحماية القانونية للعمال الفلسطينيين، وتحويل كامل مستحقاتهم وفقاً لما نص عليه بروتوكول باريس.

تحميل الملف