اقتصاد التراث الثقافي في فلسطين والتنمية المستدامة

الكاتب: حمدان طه, ايمان سعادة, روان سمامرة, محمد الزرد
السنة: 2023

يعتبر التراث الثقافي والطبيعي والصناعات الثقافية الإبداعية موارد أساسية للتنمية المستدامة في فلسطين، وتلعب دوراً محورياً في تعزيز القطاع السياحي، ما يجعل أنشطتها وارتباطاتها المتبادلة بمثابة المحرك لما يمكن اعتباره نواة "اقتصاد التراث الثقافي" الفلسطيني. يستند هذا الاقتصاد إلى مقومات مادية وغير مادية مهمة، مما تتمتع به فلسطين من غنى وتنوع في تراثها الأثري والحضاري والديني، حيث تزخر بآلاف المواقع الأثرية والتاريخية والدينية والطبيعية، كما أن فلسطين هي مهد الديانات الثلاث، وهي مكان مولد السيد المسيح ومسرى النبي محمد، وتعج بآلاف المقامات والأضرحة، ما يعبر، بشكل كبير، عن غنى تراثها الروحي. إضافة الى مقوماتها الطبيعية والبرية المميزة عالمياً، تمتاز فلسطين، أيضاً، بتراثها الشعبي غير المادي من تقاليد، وممارسات ثقافية، وموسيقى، وعادات، وحرف تقليدية، ومهرجانات، وأعياد دينية، وصناعات حرفية وإبداعية مميزة (Taha, 2020). تعتبر الصناعات الثقافية الإبداعية من أسرع الصناعات نمواً في العالم، وقد ثبت أنها خيار إنمائي مستدام، يعتمد على مورد فريد ومتجدد هو الإبداع البشري.

 

لكن على الرغم من امتلاك التراث الثقافي والطبيعي والصناعات الثقافية الإبداعية مقومات كبرى للتطوير، فإن الجزء الأعظم من هذه الموارد غير مستغل تماماً. على سبيل المثال، ما زالت مساهمة السياحة منخفضة نسبياً في الناتج القومي، فهي تتراوح ما بين 2,5-4% فقط (فلاح، 2014)، مقارنة بـ 14% في الأردن (بظاظو، 2021)، و12% في مصر (البنك المركزي المصري، 2022)، و8-12,4% في لبنان، و8-14% في تونس (يحياوي، 2021) من الناتج المحلي الإجمالي.

 

تأتي هذه الدراسة في إطار اهتمامات معهد "ماس" بخدمة صانعي القرار لتسخير موارد التراث الثقافي والطبيعي والصناعات الثقافية الإبداعية في دعم عملية التنمية المستدامة. كما تعالج هذه الدراسة واقع التراث الثقافي والطبيعي، والصناعات الثقافية الإبداعية ودورها في تعزيز القطاع السياحي، وسبل تمكين التراث الثقافي والطبيعي من لعب دور محوري في عملية التنمية الاقتصادية في فلسطين. لكن فلسطين تواجه قيوداً كبيرة أمام التوسع السياحي والتحكم بمجرياته بسبب سيطرة الاحتلال على تدفق السياحة الدولية، وكذلك على المساحات الطبيعية والبرية الواسعة، والعديد من المواقع الأثرية والتاريخية.

 

تسترشد الدراسة بأهداف خطة التنمية المستدامة للأمم المتحدة، التي تتلخص في كيفية توظيف قوة التراث الثقافي والطبيعي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة وتحقيق الازدهار، من خلال تعزيز روح الشراكة. في العام 2015، تم إدراج الثقافة لأول مرة في جدول الأعمال الدولي للتنمية المستدامة، وذلك ضمن أهداف التنمية التي اعتمدتها الأمم المتحدة.[1]

 

اعترفت الأمم المتحدة بدور الثقافة عموماً، والتراث الثقافي على وجه الخصوص، وذلك في أجندة العام 2030 وأهداف التنمية السبعة عشرة المنبثقة عنها. وقد ظهر التراث الثقافي، بوجه خاص، في الهدف رقم 17 حول استدامة المدن والمجتمعات، كما أن للثقافة دوراً حاسماً في بلوغ الهدف 11 من أهداف التنمية المستدامة، الرامي إلى "العمل على أن تكون المدن والمؤسسات البشرية مفتوحة للجميع، مرِنة ودائمة". تتضمّن الفقرة 11.4، دعوة إلى "تعزيز الجهود لحماية التراث الثقافي والطبيعي العالمي والمحافظة عليه". وكان إدماج هذه الأهداف في أجندة العام 2030 حجر الزاوية في تضمين التراث الثقافي في السياسة الدولية (Labadi et al, 2021).

 

على صعيد التنظيم والتخطيط السياساتي، يدار قطاع التراث الثقافي المادي والسياحة الفلسطيني من قبل وزارة السياحة والآثار، في حين يدار قطاع الثقافة من قبل وزارة الثقافة، وقطاع التراث الطبيعي من قبل سلطة جودة البيئة. هذا إضافة إلى عدد كبير من المؤسسات العاملة والناشطة في هذه القطاعات؛ سواء الخاصة أو الأهلية.

 

عملت الجهات التنظيمية في فلسطين خلال الأعوام الماضية على تطوير السياسات والتشريعات المتعلقة بقطاع التراث والصناعات الثقافية، كان من نتائجها إقرار قانون التراث الثقافي المادي العام 2018. كما قامت وزارة الثقافة باستحداث دائرة جديدة للصناعات الثقافية الإبداعية، وتعزيز العمل باتفاقية 2005 حول تنوع أشكال التعبير الثقافي، وإعداد مسودة قانون التراث الثقافي غير المادي، وإعداد قائمة بالتراث الثقافي غير المادي. أيضاً، قامت وزارة السياحة والآثار الفلسطينية، وفي إطار التعاون المحلي والدولي، وبمشاركة مؤسسات المجتمع المدني العاملة في حقل التراث الثقافي، بتأهيل مجموعة من المراكز التاريخية والمواقع الأثرية كحدائق وطنية. هذا إلى جانب مشاركة الوزارة في العديد من المعارض الدولية، وتنفيذ دورات تدريبية للعاملين في قطاع السياحة، وترخيص الأدلّاء السياحيين بلغات متنوعة، وتعزيز السياحة الرقمية.

 

تعزز ذلك بتوقيع فلسطين على عدد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية بعد نيل فلسطين العضوية في منظمة اليونسكو سنة 2011، أبرزها اتفاقية لاهاي لحماية التراث الثقافي أثناء النزاع المسلح لسنة 1954، واتفاقية النقل والاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية لسنة 1970، والاتفاقية الدولية لحماية التراث الثقافي والطبيعي العالمي لسنة 1972، واتفاقية الحفاظ على التراث الثقافي المغمور لسنة 2001، واتفاقية الحفاظ على التراث الثقافي غير المادي لسنة 2003. وسجلت فلسطين في فترة زمنية قصيرة نجاحات مهمة في تسجيل عدد من المدن والمواقع الأثرية على لائحة التراث الثقافي المادي، وهي: بيت لحم، الخليل، المدرجات الزراعية في بتير، إلى جانب مدينة القدس المسجلة من قبل الأردن سنة 1981، إضافة إلى تسجيل ثلاثة موضوعات على لائحة روائع التراث الثقافي غير المادي وهي: الحكاية، شجرة النخيل، التطريز الفلسطيني.

 

تستعرض الدراسة التجارب العالمية حول دور قطاع الثقافة في التنمية الاقتصادية، وأبلغ مثل على ذلك الاقتصادات الناشئة في دول الخليج، والدور الذي لعبه القطاع السياحي والثقافي في تنمية الناتج القومي. كما تقدم الدراسة عرضاً لواقع التراث الثقافي والطبيعي والصناعات الثقافية الإبداعية في فلسطين، استناداً إلى معطيات وزارة السياحة والآثار، ووزارة الثقافة، وسلطة جودة البيئة، والجهاز المركزي للإحصاء، والقطاع الخاص والخبراء، والإمكانات الكبيرة التي لا تزال كامنة في هذه القطاعات، والتي في حال استغلالها من المتوقع أن تسهم، بشكل كبير، في تعزيز التنمية المستدامة.

 

توصلت الدراسة إلى مجموعة من النتائج المهمّة؛ فعلى صعيد التراث الثقافي، تتمتع فلسطين بغنى وتنوع تراثها الأثري والتاريخي والديني، تتمثل بآلاف المواقع الأثرية والمباني التاريخية والأماكن الدينية. جرت أعمال تأهيل وتطوير محدودة في المواقع الأثرية والمباني التاريخية كمقاصد سياحية. وتشكل المواقع المستغلة نسبة ضئيلة من مجموع المواقع الأثرية. يتعرض التراث الثقافي لتحديات كبيرة من قبل سلطات الاحتلال التي تواصل انتهاكاتها الواسعة تجاه مواقع التراث الثقافي، ومحاولة الاستحواذ والسيطرة عليها، إلى جانب التعديات على المواقع الأثرية والمباني التاريخية من قبل لصوص الآثار.

 

على صعيد التراث الطبيعي، أظهرت الدراسة أن التراث الطبيعي ما زال مورداً غير معترف به تماماً، وغير مندمج في الرؤية السياحية أو الاقتصادية، وأن المسؤولية عن تنمية هذا القطاع تقع على عاتق سلطة جودة البيئة ووزارتي الزراعة والسياحة. إن التراث الطبيعي يمتلك طاقات كبيرة في التنمية المستدامة، وخلق فرص عمل. وتعتبر المحميات الطبيعية والمسارات نماذج مهمة على طريق تنمية الوعي بأهمية التراث الطبيعي في فلسطين.

 

كما خرجت الدراسة بتوصيات عدة مهمة في سبيل تعزيز دور اقتصاد التراث الثقافي في تنمية القطاع السياحي والتنمية في فلسطين. ففيما يتعلق بالتراث الطبيعي، لا تزال الأنظمة واللوائح الخاصة بالحماية والتنقيب والمتاحف والحفاظ على التراث والسجل الوطني غير منجزة، بما يستدعي تعزيز العمل عليها. كذلك، العمل على إقرار قانون التراث الثقافي غير المادي، إضافة إلى الأنظمة واللوائح المكملة له. سيوفر هذا القانون إطاراً لحماية التراث الثقافي غير المادي الذي لا يتمتع بالحماية القانونية حالياً. توصي الدراسة، كذلك، وتؤكد على ضرورة تشكيل دائرة وطنية مختصة مشكلة من وزارتي السياحة والآثار والثقافة، بمشاركة الخبراء في الجامعات والمؤسسات العاملة في حقل الثقافي، للتصدي لعلميات سرقة التراث الثقافي المادي وغير المادي التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي، وكذلك للتحريف الصهيوني للواية التاريخية والأثرية.

 

في مجال التراث الطبيعي، أوصت الدراسة بتأسيس شبكة وطنية للمحميات الطبيعية، تعيد تنظيم وتحديد المناطق التي يجب حمايتها، والبدء بإنشاء المحميات الطبيعية والتراثية ذات القوانين الخاصة من أجل المحافظة على المواقع التراثية والمناطق الطبيعية في تلك المحميات. كما أوصت بتعزيز موقع ودور فلسطين في الاتفاقيات الدولية والهيئات والمؤسسات الدولية البيئية، والاستفادة من المصادر والموارد والصناديق الدولية البيئية؛ سواء من خلال الاتفاقيات البيئية أو المؤسسات البيئية المتعددة في المنظومة الدولية، إضافة إلى إمكانية ووجوب فضح الممارسات والانتهاكات الاحتلالية بحق البيئة الفلسطينية. من التوصيات المهمة أيضاً، تطويع استخدام التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي لنشر المعرفة والوعي حول أهمية الموروث الطبيعي، على سبيل المثال، تطوير تطبيق عن المحميات الطبيعية ومعلومات عنها. من الضروري كذلك، العمل على وضع السياسات الخاصة بالسياحة البيئية التي تتكون من مجموعة من الأنظمة والقوانين والتشريعات التي تضعها وزارة السياحة والآثار بالتنسيق والتعاون مع الجهات ذات العلاقة بالنشاط السياحي والبيئي، وذلك لتنظيم كامل للعمليات السياحية من تنبؤ وتخطيط وإدارة ورقابة وتقييم ومراجعة، وخلق توازن بين الأنشطة السياحية والبيئية بما يحقق التنمية المستدامة لمناطق الجذب السياحي.

 

بالنسبة للصناعات الثقافية الإبداعية، أوصت الدراسة بضرورة توفير قروض طويلة المدى بفائدة منخفضة لإسناد الفاعلين في قطاع الحرف التقليدية، وتنظيم المعارض والنشاطات المحلية لتسويق السلع الحرفية والثقافية الإبداعية في مختلف المدن والقرى الفلسطينية، إضافة إلى اهتمام وزارة الثقافة، وغيرها من المؤسسات الفاعلة في الحقل الثقافي، بالمشاركة في المعارض الدولية والعالمية الخاصة بمجال الصناعات الثقافية للترويج للمنتج الثقافي الفلسطيني، وزيادة التصدير منه. أيضاً، ضرورة أخذ موضوع الثقافة الرقمية بعين الاعتبار، وأن يُدرج بشكل محوري وأساسي في الاستراتيجيات، وبخاصة بعد تجربة جائحة كوفيد-19، والانتقال إلى الأنشطة عن طريق الإنترنت، وفي ظل التوجه العالمي المتطور لاستخدام الإنتاجات الثقافية المرقمنة. أخيراً، وضع تشريعات لحقوق الفنانين تحمي أعمالهم المنشورة على الإنترنت كفلسطينيين، وسن قانون حماية حقوق الملكية الضروري لتطور قطاع الصناعات الثقافية الإبداعية.

 
تحميل الملف