التدمير الديموغرافي الممنهج وديناميكيات سوق العمل في قطاع غزة: التداعيات في ظل حرب تشرين الاول 2023
«التكيف المجتمعي »
تُُعدُُّ الحرب الأخيرة التي شنتها قوات الاحتلال الاسرائيلي على قطاع غزة في تشرين الاول 2023 واحدةًً من أكثر الحروب تدميراًً وفتكاًً في التاريخ الحديث، لما خلفته من آثار كارثية على السكان المدنيين والبنية التحتية الحيوية. فقد تسببت في نزوح واسع النطاق وارتفاع مهول في عدد الضحايا المدنيين، بما في ذلك النساء والأطفال. ولم تقتصر تداعيات هذا العدوان على كونه كارثة إنسانية فادحة، بل امتدت لتطال النسيج الاقتصادي والاجتماعي برمّّته، وفي مقدمته سوق العمل الفلسطيني. فقد جاء هذا العدوان في سياق هشاشة بنيوية مزمنة يعاني منها قطاع غزة منذ سنوات، نتيجة الحصار طويل الأمد وتردي الظروف المعيشية والاقتصادية، مما أضعف قدرة الاقتصاد المحلي على الصمود في وجه الأزمات المتكررة ), UN 2024 ( 1. ومع توقف معظم الأنشطة الاقتصادية بفعل الدمار والتصعيد العسكري، تعمّّقت الاختلالات الهيكلية في سوق العمل بشكل غير مسبوق. تمثّّلت هذه الاختلالات في تآكل فرص التشغيل، وتراجع معدلات المشاركة الاقتصادية، وانكماش كبير في القطاعات الإنتاجية، لا سيّّما تلك التي تمثّّل مصدر دخل رئيسي لآلاف الأسر في قطاع غزة ) 2)ILO, 2024 .
أسفر العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عن دمار كارثي ألحق تشوّّهًًا عميقًًا بالتركيبة السكانية، وأدى إلى انهيار واسع في مكونات سوق العمل، خاصة بين الفئات المنتجة من الشباب. وقد تجلّّت هذه الآثار في تراجع حاد لمعدل المشاركة في القوى العاملة، واختلالات ديموغرافية كبيرة بين السكان في سن العمل والفئات المعالة، فضلاًً عن دفع الفئات المهمشة لا سيما النساء والشباب والنازحين قسرًًا إلى هوامش البقاء. في هذا السياق، تهدف هذه الورقة إلى تحليل التداعيات المتعددة الأبعاد للانهيار الديموغرافي الممنهج في قطاع غزة، والذي يتمثل في النزوح الجماعي، وارتفاع أعداد الضحايا، وتفكك الروابط الأسرية، وانعكاس ذلك على أداء سوق العمل. ويغطي نطاق التحليل الفترة التي أعقبت العدوان على قطاع غزة في 7 تشرين الاول 2023 ، وصو الًا إلى التصعيد العسكري المتجدد في آذار 2025 ، حيث تستمر أعداد الضحايا والإصابات في الارتفاع يومًًا بعد يوم وسط استمرار العدوان.
وتستعرض الورقة الحالية أشكال التكيف المختلفة لسكان قطاع غزة مع هذه الأزمة المتواصلة عبر استراتيجيات متعددة للصمود، وآليات تأقلم فرضتها ظروف البقاء القاسية، بما في ذلك بروز مهن جديدة في القطاع غير المنظم. وتهدف هذه الورقة في جوهرها إلى تقديم فهم متكامل لكيفية انعكاس الدمار الديموغرافي واسع النطاق، الذي خلّّفته الحرب، على منظومة التشغيل في السياقات المتأثرة بالنزاعات. في ظل هذا الواقع، يرزح سوق العمل في قطاع غزة منذ اندلاع الحرب تحت ضغوط ديموغرافية خانقة وغير مسبوقة، تُُعقِِّد بشدة أي مسار محتمل للتعافي، و تستدعي استجابة سياسية عاجلة، متكاملة وموجهة؛ وهو ما يشكّّل الإطار التحليلي المركزي لهذه الدراسة.