إشكالية هوية الاقتصاد الوطني الفلسطيني والتحول الهيكلي المطلوب للتنمية المستدامة
لم يكن هدف هذا البحث طرح الأجوبة والحلول الأمثل، بقدر ما سعت لطرح الأسئلة الصعبة التي بقيت عالقة في الحوار الاقتصادي، بينما التاريخ يسير إلى الأمام، يؤسس لحقائق اقتصادية واجتماعية وسياسية يبدو أنه لا رجعة عنها. وهي الإشكاليات المتداخلة ببعضها والمؤثرات التي حالت دون التنمية ودون اقتصاد وطني ودون الحوكمة المثالية، التي حملتها "وعود عاصفة" الثورة منذ نصف قرن على الانتقال غير المحقق منها للدولة خلال السنوات الثلاثين الأخيرة. في اعتقادنا، فإن تجنب حسمها، أو التعامل مع الأمور الفلسطينية الاقتصادية على أساس "الأعمال كالمعتاد" في سياق التمسك بالوضع الراهن بصفته أفضل الخيارات السيئة، إنما ينذر بالقضاء أخيرا على أي اقتصاد فلسطيني متكامل، وطني أو دون وطني، ويضع مصير الشعب الاقتصادي والاجتماعي تحت رحمة أسواق غير منظمة، بل مظلمة، ومصالح استعمارية علنية وخفية، ومصلحة الأرباح قبل المجتمع. هذا ليس ما وعدنا به، ولا ما عملنا لأجله.
يستفاد من هذه الورقة أن هناك حقيقة أساسية يجب الإقرار بها وهي أن "إعادة النظر في الاستراتيجية الاقتصادية والاجتماعية لفلسطين ومفهوم الدولة الفلسطينية في ظل الاحتلال"، يجب أن تنتج نموذج اقتصادي-اجتماعي مناسب للقرن الـ 21 وعالم عربي متحول ومشهد دولي متوتر. يمكن لهذا النموذج أن يتمثل في توجهين أساسيين، الأول، ما يمكن عمله في إطار ترتيب البيت الاقتصادي الفلسطيني الداخلي من خلال تبني نهج إداري لا مركزي وحوكمة اقتصادية سليمة تختلف تماما عن السابق، وبخاصة في مجال السياسات الاقتصادية والمالية والاجتماعية. الثاني، الاستراتيجية الاقتصادية التي تخدم العلاقات الاقتصادية الخارجية من خلال تبني علاقات اقتصادية جديدة تراعي المصالح الوطنية (بأوسع تعريف للوطن).
يتطلب هذا، التوافق على ما هو الاقتصاد الذي نريده وكيف نديره، وأين تكمن الخطوط الحمراء الاقتصادية القومية، ثم كيف نتوجه للعلاقة الاقتصادية مع إسرائيل. فمثلا يمكن أن تكون علاقة تقارب مع إسرائيل تخدم المصالح الفلسطينية وفي الوقت نفسه تحقق الانفكاك التدريجي، الذي نقصد به تعزيز التنمية الفلسطينية المحلية وتقوية المقومات الاقتصادية. قد يتحقق ذلك بشكل تدريجي ويخدم المدى المتوسط والبعيد من خلال استغلال الموارد البشرية والطبيعية وإعادة هيكلة الإدارة الاقتصادية على أساس لامركزي، ونعتقد أن هذه ستكون عناصر ومقومات أساسية جديدة للاقتصاد الجديد الذي نريده.
في الوقت الحالي، تحتاج فلسطين لاستهداف "السيادة"، لكي تتمكن بالكامل من الصمود في وجه الأزمة والخروج منها من خلال تثبيت مكانتها المشروعة بين دول العالم. عندما تستطيع دولة فلسطين أن تعمل بشكل مترابط على أنها جملة واحدة من النظم والمؤسسات القائمة حالياً – المدنية والحكومية، والمؤسسات الناظمة والسوقية، والقانونية وغير النظامية، والديمقراطية والتعددية، والاجتماعية والاقتصادية، والأسرية والشركات، والريفية والحضرية، والإقليمية والمحلية – عندها يصبح واقع الدولة وحتميتها هدفا أقرب.
لذلك، يجب أن تركز حوكمة التنمية في إطار الاستراتيجية الاقتصادية الجديدة، قبل كل شيء، على تعبئة الموارد البشرية وتنظيمها وتأطيرها، وتعزيز التضامن والتنسيق الاجتماعي. بهذه الطريقة، لا تحتاج الحلول إلى أن تكون معتمدة على توافر الموارد المالية بقدر ما تتطلب الاعتماد على "الآخر" بدلاً من استبعاده، والاستفادة من أية ميزات يمكن تحقيقها من خلال العلاقات الاقتصادية الخارجية، حتى لو كانت مع دولة المحتل، إذ يمكن الاستفادة من علاقات التقارب بما يخدم المصالح الفلسطينية ويعزز الانفكاك، والاهتمام بأكثر الناس تهميشاً وفقراً، والتشاور والتخطيط لتوجيه الفعل، بدلاً من رد الفعل.
وأخيرا يجدر التأكيد على أنه لا يمكن الاستمرار في التمعن بسوء الحال السابق بسبب السياسات الإسرائيلية المعطلة والمقيدة للتنمية، والتمعن في رصد الأرقام والمؤشرات التي تعبر عن ذلك، والانتظار حتى زوال الاحتلال لتغيير الوضع القائم. فلا بد من إعادة التفكير باقتصاد جديد، وعلاقات مختلفة عن السابق، لتحديد ماهية الاقتصاد الوطني الفلسطيني في القرن الـ21 الذي يستحقه الشعب الفلسطيني، حتى وإن كان أجيال القرن الـ 20 (الرعيل الأول) قد لا يشهدوه في حياتهم.