البروفيسور آدم تووز، مؤرخ اقتصاديات الحروب وما بعدها: يقدم محاضرة يوسف صايغ التنموية للعام 2025
يستعد معهد ماس للسنة الرابعة عشر على التوالي منذ إطلاقه هذه السلسة في العام 2009، لعقد محاضرة يوسف صايغ التنموية في 22 تشرين الأول القادم في مقر المعهد، والتي سيقدمها عبر الندوة الرقمية أستاذ التاريخ في جامعة كولومبيا، البروفيسور آدم تووز (Adam Tooze). كما عكف ماس خلال السنوات الماضية، يسعى المعهد لجعل هذا الحدث الدوري الذي يخلد الإرث العلمي والوطني للاقتصادي الفلسطيني الكبير، بروفيسور يوسف صايغ (1916- 2004)، أكثر من مجرد محاضرة، بل فرصة للاستفادة من لقاء بين فلسطين ومفكرين عالميين، فهي بمثابة تجربة تعليمية. وكما جرت العادة، سينشر المعهد في الأسابيع السابقة للمحاضرة عددا من المقالات التثقيفية حول المحاضر وأفكاره وموضوع المحاضرة نفسها، التي تأتي هذه السنة تحت عنوان "الاقتصاد في وجه الإبادة – إعادة الإعمار والتنمية ما بعد الحرب، دروس من التاريخ وسياسات لفلسطين". نخصص المقال الأول منها لنقدم لمحة مختصرة عن السيرة الأكاديمية للمحاضر وتلخيص أهم الأفكار في كتاباته العلمية، بينما سنعرض في مقالات قادمة بعض مقالاته الإعلامية المترجمة.
سيرة المحاضر
يعمل آدم تووز أستاذا للتاريخ في جامعة كولومبيا (يشغل كرسي شيلبي كولوم ديفيس للتاريخ) ويشغل مناصب عدة فيها، منها مدير المعهد الأوروبي، المعني بالدراسات الأوروبية، ورئيس لجنة الفكر العالمي، المعنية بتعزيز المعرفة والمشاركة بالقضايا العالمية. قبل ذلك، عمل تووز محاضرا في جامعتي ييل وكامبريدج. وهو يحمل شهادة الدكتوراة (1996) في تاريخ الاقتصاد من كلية لندن للاقتصاد (LSE). ألّف تووز خمسة كتب حصدت جوائز عالمية، منها جائز ليونل غيلبر (Lionel Gelber Prize) لأفضل الكتب الإنجليزية عالميا التي تعنى بالسياسة الخارجية والقضايا الدولية. يعمل تووز حاليا على كتابٍ يتناول الاقتصاد السياسي العالمي للأزمة المناخية، كما يكتب في صحيفتي "الفاينانشال تايمز (Financial Times)" و "فورين بوليسي (Foreign Policy magazine) بينما يعمل مقدما لبرنامج "بودكاست" وكاتبا على منصة "سبستاك Substack" لنشرة "الكتاب البياني Chartbook" الخاصة به.
ثمن الدمار: بناء وانهيار الاقتصاد النازي
في هذا الكتاب يحاول تووز سرد التاريخ الاقتصادي لألمانيا النازية تحت حكم أدولف هتلر، مستشهدا بـ"الكتاب الثاني" لأدولف هتلر، زعيم ألمانيا النازية، الذي كتبه بعد أربعة سنوات من كتابته لـ"كفاحي." في "الكتاب الثاني،" يسرد هتلر رؤيته لكي تصبح أوروبا كالقوة الصاعدة بعد الحرب العالمية الأولى، أي الولايات المتحدة الأميركية، والتي تعتمد على الأراضي الشاسعة والأسواق الكبيرة. بهذه الرؤية، صعد هتلر إلى الحكم ورسّخ بعقلية المخطط الاقتصادي النازي هدف صعود ألمانيا اقتصاديا لمرتبة الولايات المتحدة الأميركية، فموارد ألمانيا، على صعيد القوة العاملة والنفط والمعادن، شحيحة ولا يمكنها أن تحقّق الاقتصاد المأمول إلا عبر الحروب والاحتلال والاستعمار الداخلي لأوروبا. علاوةً على ذلك، فإن الاقتصاد الألماني ذاته كان ذا طابع زراعي مصحوب بإنتاجيه ضئيلة مقارنةً بفرنسا، بريطانيا، وأمريكا. من هذا المنطلق، تصبح العسكرة والحروب أدوات اقتصادية بذاتها، حيث تم إعادة محورة الاقتصاد الألماني لخدمة الجهد الحربي.
بناءً على تلك المعطيات، يظهر تووز بأن نزعة هتلر نحو الحروب والعسكرة لم تكن نتيجة تفكير لاعقلاني، أو نزوات عنصرية بحتة، بل كانت جزءا من رؤية تهدف لجعل ألمانيا على قدمٍ وساق مع الولايات المتحدة الأميركية على الصعيد الاقتصادي. يعزو تووز خسارة ألمانيا النازية للحرب العالمية الثانية لنفس العوامل التي دفعتها لشنها: قلة الموارد واليد العاملة، بالرغم من الحملات التي شنها هتلر في جميع أنحاء أوروبا والتي لم تحلّ مشاكل ألمانيا البنيوية إلا مؤقتا. كتاب "ثمن الدمار" تذكير بأن الاقتصاد، بتعريفه الأبسط، يعتمد على إدارة عدد محدود من الموارد والتي تقرّرها طبيعة التطور الاجتماعي-الاقتصادي والجغرافيا. بمنظور تووز، لم تكن الحرب العالمية الثانية إلا محاولةً لزيادة الموارد والمقدرات الصناعية المحدودة التي بحوزة ألمانيا.
الطوفان: الحرب العظمى وأميركا وإعادة تشكيل النظام العالمي
يدمج آدم تووز في كتابه هذا ما بين العلاقات الدولية والاقتصاد السياسي ليرسم صورة صعود الولايات المتحدة الأميركية البطيء في منتصف الحرب العالمية الأولى، تلك اللحظة التي تعدّت بها قدراتها الاقتصادية نظيرتها البريطانية، وفرض وودرو ولسون مبدأ "السلام دون انتصار" والذي كان أول تمظهر لدور أميركا الصاعد عالميا. قد ترتب على دموية الحرب العالمية الأولى، وصمت المدافع بعد تلك الحرب، إنهاك النظام العالمي القديم ذو الطابع الإمبراطوري البحت، والذي تتقاسم فيه الإمبراطوريات فيما بينها حصصا من أفريقيا وآسيا كما يحلو لها. في خضم تلك التغيّرات، كان ولسون يطمح إلى إعادة تمحور النظام العالمي إلى نظامٍ أكثر ليبرالية، علاوةً على إعلانه المشهور لـ"حق الشعوب في تقرير مصيرها" والذي شكّل إطارا لما سميّ آنذاك بعصبة الأمم.
بالرغم من هذه التطورات، يظهر تووز بأن أميركا، بنخبها السياسية والاقتصادية والتي فضّلت سياسة "الانغلاق على الذات" بدلا من الهيمنة الاقتصادية والسياسية على صعيد عالمي، تضاربت مع رؤية ولسون، ما أدّى إلى عدم مصادقة مجلس الشيوخ الأميركي على معاهدة فرساي (1919) والتي بموجبها تشكلت عصبة الأمم، مما أدى إلى عدم انضمام الولايات المتحدة إلى عصبة الأمم. من بعد عام 1919، أتت عدّة ضربات اقتصادية لأوروبا وأميركا، منها الكساد الاقتصادي العالمي 1920 والذي لم تتأثر به أميركا، وكساد عام 1929 والذي بدأ في أميركا كانهيار لسوق الأسهم، علاوةً على أزمات اقتصادية تتعلّق بدفع الديون المترتبة على الدول الأوروبية للولايات المتحدة الأميركية. وفي إشارةٍ للهيمنة الأميركية على أوروبا، يبرز تووز مدى استدانة دول أوروبا من الشركات المالية الأميركية. لكن، بالرغم من دورها المتصاعد عالميا بعد الحرب، ظلت أميركا منغلقة في سياساتها الداخلية حتى دخولها للحرب العالمية الثانية وهزيمة دول المحور.
بهذا التحليل يبيّن تووز لنا محدودية أحلام ولسون في نظام يسود فيه هيمنة أميركية بطابعٍ ليبرالي في ظل المحافظة على التركيز على الداخل الأميركي. يرسم تووز صورة للحالة الجنينية للهيمنة الأميركية الواسعة بعد عام 1945 من خلال أزمات ديون الحرب العالمية الأولى، والاستدانة الأوروبية الواسعة من الشركات المالية الأميركية، والكساد الاقتصادي العالمي في عام 1929. بالرغم من عدم دخول أميركا عصبة الأمم، ونشر المبادئ الولسونية كـ"حق الشعوب في تقرير المصير،" فقد رأت فترة 1916-1941 صعودا بطيئا للولايات المتحدة الأميركية تكلّل في الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي في نهاية القرن العشرين.
الانهيار: كيف غيّر عقد من الأزمات المالية العالم
يعدّ هذا الكتاب بحثا معمقا في عالم السياسات المالية عقب الانهيار العقاري في الولايات المتحدة الأميركية نتيجة الاقتراض المفرط والذي أدى إلى أزمة الركود الاقتصادي عام 2008. يركّز تووز فيه على تعاطي كلٌ من أميركا ودول منطقة اليورو مع تلك الأزمة، مشددا على دور الدولة كإطار ناظم للسوق المالي. ويبرز التركيز الأميركي على محاربة المدّ الصيني إلى الأسواق المالية الأميركية والذي أدّى إلى تقاعس تام عن المهمات الرقابية المتعلقة بالبنوك التي ركّزت على السوق العقاري كمنفذها للإقراض والسيولة. أدى هذا التركيز إلى نشوء فقاعة اقتصادية للسوق العقاري، بحيث ساعدت الفوائد القليلة وكثرة العقار على اجتذاب الكثير من الناس على حساب التحقّق من إمكانية السداد. ومع انفجار الأسواق العقارية، انعدمت ثقة البنوك بالاستثمارات العقارية، ما أدّى بدوره إلى سحب العامّة أموالهم من البنوك، مقللًا سيولتها. في إطار هذه الخلفية، يبرز تووز ردة الفعل السريعة لجهاز الاحتياطي الفيدرالي، والذي يعدّ البنك المركزي الأميركي، الذي وضع نفسه كملاذ أخير لإقراض البنوك في ظل غياب السيولة لديها. بل وزاد تغطيته للبنوك ليشمل البنوك الأوروبية والعالمية. بتلك السياسة المالية، ضمن جهاز الاحتياطي الفيدرالي عدم تطور هذا الركود إلى كساد نتيجة قلة السيولة على الصعيد الداخلي.
على الضفة الأخرى من البحر الأطلسي، يرى تووز تقصير دول منطقة اليورو كبيرا، وبالأخص ألمانيا وفرنسا، التي استثمرت بنوكها في السوق العقاري الأميركي مستخدمةً الأسواق المالية الأميركية لسيولتها. على هذا المنوال، عندما ضربت أزمة الركود الولايات المتحدة، لم تقم دول منطقة اليورو بأي إجراءات مالية احترازية، بل حاولت في خطابات قادتها أن تحصر الأزمة في الولايات المتحدة، مما أدى إلى انهيار شبه كامل للمؤسسات المالية الأوروبية، ولم تؤد سياسة الاحتياطي الفيدرالي الأميركي إلا إلى حلٍ مؤقت للأزمة، والتي تجسدت لاحقا في الأزمة الاقتصادية اليونانية وفشل حزب "سيريزا" في معالجة الأزمة. يخوض تووز أيضا في تعاطي الصين مع الأزمة، وكيفية خروجها منها بشكل مستقر من خلال سياساتها الاقتصادية والمالية والتي ركزت على دورٍ فعّال للجهاز المالي الحكومي والتخطيط الاقتصادي، بحيث أنفقت 19% من الناتج المحلي الإجمالي لتغطية خسائر الواردات. علاوةً على ذلك، يحلّل تووز تعاطي كل من روسيا، وكوريا الجنوبية، وبريطانيا مع الركود الاقتصادي العالمي.
إن الفكرة الأساسية في هذا الكتاب هي الدولة وسرعة ردها على الأزمات المالية. بينما يعتبر تووز أن الاستجابة السريعة للولايات المتحدة الأميركية والصين وروسيا على الأزمة جديرة بالثناء، إلا أنه يلقي اللوم على دول منطقة اليورو لعدم تعاطيهم مع الأزمة بالجدية المطلوبة وبطء البنك المركزي الأوروبي في محاولة امتصاص الأزمة كما فعلت الولايات المتحدة الأميركية. بحسب تووز فإن صعود دونالد ترامب عام 2016، وأزمة أوكرانيا عام 2014 والتي تمتد حتى يومنا هذا، علاوةً على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2020، وصعود اليمين عالميا على حساب اليسار، جميعها تعود في جوهرها إلى أزمة الركود الاقتصادي عام 2008 وفشل الكثير من الدول التعاطي معها بالشكل المطلوب، القيود المفروضة على المؤسسات المالية والتي تجعل سياسات التقشّف الاقتصادية الطريقة الأنجع لحل مشاكل الديون والعجز المالي.