نظرية النقود: من كينز إلى فريدمان إلى نظرية النقد الحديثة (2)

نظرية النقود: من كينز إلى فريدمان إلى نظرية النقد الحديثة (2)

Theory of Money: From Keynes to Friedman to the Modern Monetary Theory

 

تناولنا في باب "مفاهيم وتعاريف اقتصادية" في العدد الماضي الجزء الأول من نظرية النقود، وسنتابع هذا في العدد الحالي. بدأنا في العدد الماضي باستعراض التطور التاريخي للنظريات الخاصة بالنقود، منذ منتصف القرن الماضي. وبينا كيف تمكنت نظرية ملتون فريدمان "النقدية" (Monetarism)، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، من إقناع شريحة كبيرة في الدوائر الأكاديمية والبنوك المركزية الكبرى والمؤسسات الدولية النافذة على تبنيها كبديل للنظرية الكينزية عن النقود. سنركز في هذا العدد على ظاهرة انهيار أطروحات تلك النظرية على المستويين النظري والعملي، وعلى صعود "النظرية النقدية الحديثة"، التي هي كينزية في جوهرها مع بعض الجنوح والمغالاة.

 

انهارت الأسس النظرية لأطروحات فريدمان "النقدية" بشكل غريب قل حدوثه في تاريخ الفكر الاقتصادي. وابتدأت القصة في العام عندما نشر الأستاذ روبرت لوكس (1937-1972)، وهو تلميذ لفريدمان ومن المؤمنين بنظريته النقدية، مقالاً عن "التوقعات العقلانية" (Rational Expectations).[1] طرح لوكس في ذلك المقال نموذجاً للكيفية التي يشكل فيها الأفراد توقعاتهم بالنسبة لمستقبل عدد من المتغيرات الاقتصادية، مثل معدل البطالة، ونسبة التضخم، ومعدل نمو الناتج المحلي الإجمالي، وسعر الفائدة... إلخ. اعتمد لوكس في نموذجه على فرضية تقول إن كل فرد عقلاني يبني توقعاته على أساس كل المعلومات المتاحة في وقت صياغة التوقع، وبالتالي فإن الفرد العقلاني لا يرتكب خطأً في توقعاته أكثر من مرة، أي لا يكرر أخطاءه مراراً.[2] ولقد تم الترحيب بذلك المقال من قبل أتباع فريدمان على أساس أنه يسهم في إعادة بناء نظرية فريدمان على أسس صلبة تخص التصرف العقلاني للأفراد. وتم اعتبار ذلك المقال في الدوائر الأكاديمية على أنه "النسخة المستجدة من النظرية النقدية" (Monetarism –Mark 2).[3] ما حدث بعد ذلك أن لوكس أقدم على بناء نموذج كامل للاقتصاد الكلي، يأخذ الأفراد فيه قراراتهم الاقتصادية على أساس توقعاتهم العقلانية. وجاء النموذج بنتائج مغايره كلياً لنتائج نموذج " النقدية" لفريدمان. إذ تبين أنه عندما يقوم البنك المركزي بزيادة الكتلة النقدية، فإن تأثير ذلك على النشاط الاقتصادي يكون فورياً، ولا يحتاج لفترة زمنية غير معروفة كما يدعي فريدمان. الأهم من ذلك أن تأثير تلك الزيادة يعتمد عما إذا كان التغيير قد تم الإعلان عنه من قبل البنك المركزي بشكل مسبق، أم أنه تم بشكل مفاجئ بدون إعلان. ففي حالة الإعلان المسبق، لا توثر السياسة النقدية إلا على مستوى الأسعار، وليس لها أي تأثير على المتغيرات الحقيقية (البطالة، والاستهلاك، والاستثمار، والدخل). أما في حالة السياسة النقدية المفاجئة، فإنها تؤثر على المتغيرات الحقيقية.  هذه النتيجة معاكسة تماماً لموقف فريدمان الذي تحدثنا عنه في العدد الماضي. بالتالي، عندما يتبع البنك المركزي نصيحة فريدمان، ويعلن أنه سيعمل على زيادة الكتلة النقدية سنوياً بمقدار يتناسب مع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي، فلن يكون لذلك الفعل المعلن عنه مسبقاً أي تأثير حقيقي (بالأسعار الحقيقية) على النشاط الاقتصادي.

 

أما على المستوى العملي، فلقد أثبتت الأحداث منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي خطأ مفهوم فريدمان عن قدرة البنك المركزي على السيطرة على الكتلة النقدية. فبعد التطورات التقنية الكبيرة التي حدثت في الأسواق المالية، والتي انهار بسببها الحاجز الذي كان موجوداً بين الحسابات الجارية وحسابات الادخار، لم يعد حتى لمفهوم الكتلة النقدية (Money Supply) معنى محدد. ونتيجة لذلك، لم يعد هناك أية علاقة ترابط بين ما كان يعتبر على أنه الكتلة النقدية وبين الناتج المحلي الإجمالي الإسمي التي كانت موجودة في الخمسينيات والستينيات، والتي كان فريدمان يستشهد بها لدعم نظريته.[4] فاليوم لا ينظر إلى الكتلة النقدية كمتغير خارجي تحت السيطرة الكاملة للبنك المركزي، ولكن كمتغير داخلي ليس للبنك المركزي قدرة للسيطرة الكاملة عليه.[5]

 

وهكذا، فعندما حصل الركود الاقتصادي في مطلع التسعينيات في معظم البلدان الغنية، ثم الأزمة المالية الكبرى في العام 2008 وما تبعها من ركود اقتصادي كبير، ثم الركود الاقتصادي الذي حصل كنتيجة لوباء كوفيد-19، فإن كل السياسات التي اتبعتها البلدان المختلفة كانت سياسات مالية متسقة مع الفكر الكينزي. ولم تعمد أي دولة إلى معالجة الركود عن طريق السياسة النقدية بالأسلوب الذي اقترحه فريدمان.

 

نظرية النقد الحديثة

وعد بعض أعضاء الكونغرس، من الجناح التقدمي للحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة، أثناء الحملة الانتخابية للعام 2016، باتباع سياسة تقضي بزيادة الإنفاق الحكومي على خدمات الصحة والتعليم بشكل كبير وغير معهود. وقد دعموا وجهة نظرهم هذه بالاستشهاد بنظرية غير معروفة وتخص المفكر الاقتصادي وارن موسيلر،[6] وهو شخصية مغمورة على المستوى الأكاديمي، وذات سمعة جدلية. لكن تسليط أضواء الصحافة والإعلام عليها جذب إليه الاهتمام الأكاديمي، فنشرت حول آرائه مقالات وكتب وأصبحت أفكاره تعرف باسم "النظرية النقدية الحديثة".

 

تعتمد النظرية النقدية الحديثة على مقولتين رئيستين:[7]

 

  • الدولة التي لها عملة وطنية غير مدعومة بالذهب أو الفضة، وغير مرتبطة بعملة دولة أخرى (أي التي لديها عملة تسمى بالإنكليزية Fiat money) تستطيع أن تمول إنفاقها بالنقد الوطني دون حدود، أي ليس هناك قيود على التوسع الممكن في موازناتها (No Budget Constraints).
  • يتمثل الهدف الرئيسي لفرض الضرائب في مثل هذه الدولة في السيطرة على الطلب الكلي (Aggregate Demand) وليس تمويل الإنفاق الحكومي.

 

بناءً على هاتين المقولتين، حاجج موسلير أن بإمكان مثل هذه الدولة تمويل إنفاقها الحكومي، الزائد عن مواردها المحصلة من الضرائب، دون أن تلجأ إلى فرض ضرائب جديدة، أو الاقتراض عبر إصدار سندات حكومية تبيعها للقطاع الخاص، لكن عن طريق إصدار سندات حكومية تبيعها للبنك المركزي دون أن تدفع فوائد عليها، ودون أي وعد باستردادها، وهذا يعني من الناحية العملية التمويل عن طريق "طباعة النقود".

 

ليس في هذه النظرية أية طروحات جديدة في واقع الأمر، فتمويل الإنفاق الحكومي عن طريق طباعة النقود معروف ومستعمل منذ أن أصبح هناك نقد غير مدعوم بالفضة أو الذهب. لكن ما يمنع الحكومات من اتباع ذلك الأسلوب هو أنه يقود عادة إلى التضخم. على أن النظرية النقدية الحديثة لا تهتم بمشكلة التضخم على أساس أن الحكومة تستطيع دوماً أن توقف إنفاقها، أو تفرض ضرائب جديدة عندما يتجه الاقتصاد نحو التضخم. يستشهد أتباع النظرية بما حصل في أعقاب الركود الاقتصادي أعقب أزمة 2008-2009. إذ على الرغم من زيادة الإنفاق الحكومي بكميات عالية جداً وغير معهودة، فإنه لم يجلب التضخم، بل على العكس ظل النشاط الاقتصادي لسنوات أقل من المستوى الذي كان يمكن أن يصل إليه في حالة التوظيف الكامل.

 

لا شك أن ما تدعو إلية النظرية من تبنٍّ لأسلوب تمويل الإنفاق الحكومي عن طريق طباعة النقود فيه شيء من الصحة، على أساس أنه في بعض الأحوال يكون ذلك الأسلوب هو أنجع أسلوب للتغلب على أوضاع اقتصادية صعبة. لكن القول باستعمال ذلك الأسلوب في أوضاع معينة ولمدة معينة شيء، والادعاء بأنه لا يوجد على ميزانية الدولة أي قيد لأنها تستطيع دوماً طباعة النقود هو شيء آخر كلياً. إن مقولة "عدم وجود قيد على ميزانية الدولة" هي مقولة خاطئة بالتأكيد، لإنها تناقض جوهر الفكر الاقتصادي المبني على أساس أننا نعيش في عالم موارده محدودة، وأن استعمال أي مورد له تكلفة اقتصادية، بمعنى عدم القدرة على استعماله في مجال آخر. في هذا السياق، فعندما يبلغ الإنفاق الحكومي مستوى توظيف عالياً للموارد المحدودة في المجتمع (تشغيل عالٍ لرأس المال البشري والمادي)، فإن أية زيادة في الإنفاق تقود إلى رفع مستوى الأسعار والتضخم.

 

هكذا يتضح لنا أن ما هو صحيح في "النظرية النقدية الحديثة" موجود في النظرية الكينزية أصلاً، وما هو خاطئ في النظرية هو المغالاة في النظرية الكينزية. ربما أن هذه المغالاة كانت نتيجة طبيعية للمغالاة التي حدثت في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي ضد النظرية الكينزية على أيدي أتباع نظرية النقدية لملتون فريدمان. ففي نلك الأثناء، طالب أتباع فريدمان بسن قوانين تمنع كلياً تمويل الإنفاق الحكومي عن طريق الاقتراض، أي إن تكون ميزانية الحكومة مقيدة بحجم الضرائب فقط.

 

باختصار إذن، ما تعرضنا له في العدد الماضي وفي هذا العدد يؤكد على الحقائق التالية:

 

  • النظرية النقدية الحديثة تخص البلدان الصناعية الغنية، ولا تمت بصلة لوضع البلدان النامية التي يرتبط نقدها بالدولار أو اليورو.
  • هناك في كل نظرية عن النقود بعد أيديولوجي يخص دور الدولة في الاقتصاد.
  • ما زالت طروحات النظرية الكينزية هي الأكثر ملاءمة للأوضاع الاقتصادية في أكثر البلدان؛ سواء أكانت بلداناً غنية أم فقيرة.

 

 

[1] Robert Lucas (1972) Expectations and the Neutrality of Money. Journal Of Economic Theory. 4(2)103-124.

[2] تقوم نظرية فريدمان على أساس "التوقعات التكيفية" (Adaptive Expectations) التي يمكن للفرد فيها أن يرتكب الخطأ نفسه بشكل مستمر.

[3] James Tobin (1981) The Monetarist Counter-Revolution Today- An Appraisal. Economic Journal March 29-42.

[4] وهي العملة الموجودة في الاقتصاد مع الحسابات الجارية في البنوك، وأحياناً يضاف إلى ذلك بعض الحسابات الأخرى.

[5] الواقع أن النظرية الكينزية لم تعتبر الكتلة النقدية كمتغير خارجي بشكل كامل.

[6] للسيد موسلير اهتمامات كثيرة، فإضافة إلى كونه أستاذ اقتصاد ومتاجراً بالأوراق المالية، فهو سياسي رشح نفسه لرئاسة الجمهورية في العام 2009، ثم انسحب وترشح لعضوية مجلس الشيوخ عن ولاية كونتكت. ثم ترشح أكثر من مرة ليمثل الجزيرة العذراء في الكونغرس الأمريكي، ولكن باءت كل محاولاته بالفشل. ومن ناحية أخرى، فهو مهتم بصناعة السيارات الرياضية الفاخرة، حتى أن هناك سيارة تحمل اسمه. وفي العام 2001 تفرعت اهتماماته حتى شملت فلسطين، فنشر مقالاً بعنوان:Building a Palestinian Economy ، وذلك في دورية Middle East Insight.

[7] للتعرف على مضمون النظرية بشكل مفصل، انظر:

Michell, William, L. Randol Wray, and Martin Watts (2019) Macroeconomics. London: Red Globe Press.