ريع السيادة
ريع السيادة
(Seigniorage)
منذ أن بدأت البشرية باستخدام قطع نقدية من المعادن الثمينة كوسائط للتداول والاحتفاظ بالثروة (في حوالي العام600 قبل الميلاد) أخذ الأمراء الذين يصدرون تلك القطع يجنون إيراداً يعرف باسم "حق الأمير" (Seigniorage). ولفهم كيفية حصول هذا الإيراد، علينا أن نلاحظ أن القطع النقدية كانت تصنع، آنذاك، من الذهب أو الفضة، وكان من المفترض أن تتطابق قيمتها مع قيمة/وزن المعدن الثمين فيها. ولكن الأمراء الذين كانوا يصدرون تلك القطع، كانوا يخلطون المعدن الثمين بمعادن رخيصة لضمان تماسك وديمومة قطع النقد من جهة، ولزيادة وزنها من جهة أخرى. وعلى سبيل المثال، فإن قطعة النقد التي تبلغ قيمتها/وزنها 100 غ من الفضة، كانت تحتوي فعليا على 80 غ فقط؛ أي أن الأمير كان يجني ما قيمته 20 غ من الفضة من كل قطعة نقد يصدرها ويتم تداولها في السوق. هذا الفرق كان بمثابة تعويض عن تكاليف إصدار العملة والربح الذي يحققه الأمير مقابل الثقة التي يمنحها لقيمة النقد، وكان على الأمراء (أو الملوك أو الخلفاء) مراعاة توازن دقيق بين الرغبة بزيادة أرباحهم، عن طريق زيادة كمية المعادن الرخيصة، وبين ضرورة الحفاظ على ثقة الرعية حتى تستمر في تقبل القطع النقدية واستخدامها.
وبعد قرون من الزمن، مع حلول القرن السابع عشر، بات بإمكان الأثرياء وضع ثرواتهم في البنوك وإجراء معاملاتهم عن طريق كتابة "وصولات تعهد بالدفع" تسمح لحاملها الذهاب إلى البنك ومقايضتها بما يقابل قيمتها من معادن ثمينة، وهكذا كانت وصولات الدفع الجدّ الأول للأوراق النقدية (البنكنوت) التي نعرفها اليوم، والتي ربما هي، أيضاً، في طريقها إلى الزوال لصالح الحسابات النقدية الإلكترونية.
من وصولات التعهد بالدفع إلى أوراق العملة
لم يتطلب الأمر سوى تطور على صعيدين للانتقال من ذلك النظام إلى أنظمة النقد المعاصرة. التطور الأول هو قيام الحكومات (ممثلة بالمصارف المركزية) باحتكار حق إصدار وصولات التعهد بالدفع، عوضاً عن الأفراد أو المصارف. وثانيهما تمثل في تقليص حق الأفراد باستبدال وصولات التعهد بالدفع هذه بالمعادن الثمينة. ومع هذا التقليص المتدرج، وصولاً إلى إلغاء هذا الحق كلياً، بات بإمكان المصارف المركزية إصدار وصولات تعهد بالدفع (أي أوراق نقدية) دون الاضطرار للاحتفاظ بكميات معادلة من المعادن الثمينة مقابلها بالضرورة. ومع هذا النظام الجديد، ظهر المفهوم المستجد لريع السيادة (Seigniorge).[1]
ريع السيادة
هو الدخل الذي يتحقق للجهة التي تحتكر حق إصدار العملة، وهو يعادل الفرق بين القيمة الإسمية المسجلة على أوراق البنكنوت أو قطع النقد وبين تكاليف "طباعة" الأوراق النقدية، أو سك قطع النقد. على سبيل المثال، عندما يصدر البنك المركزي ورقة نقد بقيمة 10 دنانير، فإن الحكومة تحصل على دخل يعادل 10 دنانير تستخدمها لشراء خدمات وبضائع من السوق بهذه القيمة. وعلى افتراض أن تكلفة طباعة هذه الورقة النقدية تعادل نصف دينار، فإن دخل الحكومة الصافي (ريع السيادة) من هذا الإصدار يبلغ 9.5 دينار. هذا العرض المبسط يسمح لنا باستنتاج التالي: أولاً، أن قيمة ريع السيادة السنوية تتناسب طرداً مع زيادة حاجة الأفراد للنقود الورقية والمعدنية في الاقتصاد. ثانياً، ونظراً لأن الحاجة إلى النقود في الاقتصاد تزداد بشكل طردي مع نمو هذا الاقتصاد، فإن احتكار إصدار العملة يترافق مع توليد دخل متزايد مع مرور الزمن.
الثقة والحاجة
من الطبيعي أن نتساءل لماذا يقبل الأفراد قطع الورق هذه، عديمة القيمة بذاتها، لقاء جهودهم وبضائعهم، مع علمهم التام بأنه ليس هناك احتياطي من المعادن الثمينة مقابلها ولا ضمان فعلي لقيمتها؟ الجواب البسيط على ذلك هو الثقة والحاجة. الثقة بتعهد البنك المركزي بأنه سيبذل ما يستطيع لصيانة القيمة الشرائية لهذه "الأوراق"، والثقة بأن الآخرين سوف يقبلون دائماً هذه الأوراق كوسيلة دفع. أما في الحالات التي تنهار بها هذه الثقة، كما في ظرف التضخم المنفلت من عقاله، فإن فرض الحكومة للعملة كأداة وحيدة للتبادل في الاقتصاد يجبر الأفراد على استخدامها، على الرغم من أنهم يسارعون إلى التخلص منها عبر شراء البضائع والحاجيات، أو شراء عملات أجنبية يثقون بها (العملة الصعبة أو القطع النادر).
المفارقة بين ريع السيادة والتضخم
قد يتساءل البعض لماذا إذن لا يقوم البنك المركزي بطباعة كميات غير محدودة من أوراق العملة بحيث تحصل الحكومة على التمويل الذي تحتاجه، وتستغني بذلك عن متاعب وتكاليف فرض الضرائب؟ هذا بالطبع ليس خياراً متاحاً، لأن كمية ريع السيادة السنوية التي تحصل عليها الحكومة تعادل مقدار نمو الطلب على النقود في الاقتصاد. وإذا ما قامت الحكومة بطباعة أوراق نقد بكميات تفوق زيادة طلب الجمهور على هذه الأوراق، فإن هذا يؤدي مباشرة إلى ارتفاع التضخم. وارتفاع معدل التضخم بنسب عالية يؤدي بدوره إلى تقليص طلب الجمهور على النقود، ما يعني، بدوره، انخفاض حصيلة ريع السيادة. إذن، توجد هنا مفارقة: عندما تقوم الحكومة بزيادة عرض النقود بكميات أكبر بكثير من زيادة الطلب على النقود، فإن الحصيلة المتحققة من ريع السيادة يمكن أن تصبح أقل مما كان يتم تحصيله قبل الإصدار الإضافي للأوراق النقدية.
ريع السيادة في فلسطين
فلسطين، كما هو معلوم، لا تمتلك نقدها الوطني الخاص، وهو ما يعني أن ريع السيادة المتحقق من استعمال النقد فيها يذهب إلى مصدري العملات الثلاث التي يتم تداولها في الأراضي الفلسطينية (الشيكل، والدينار، والدولار). هذا، وقد تعرضت الدراسات التي تناولت ريع السيادة في فلسطين إلى جانبين للموضوع: الخسائر التي تحملها الطرف الفلسطيني من عدم حصوله على ريع السيادة، وإيراد ريع السيادة الممكن في حال أقدمت فلسطين على إصدار عملتها الخاصة. يتطلب تقدير كمية ريع السيادة في الحالتين معرفة كمية النقود في التداول (أي الطلب على النقود) في الأراضي الفلسطينية، ومعدل زيادة هذه الكمية (الطلب) سنوياً.
توصلت أولى الدراسات التي سعت إلى تقدير كمية ريع السيادة الضائع على الضفة والقطاع، الذي استقطعته إسرائيل خلال الفترة 1970-1987 بأنه يتراوح بين 1.6% و4.2% من الناتج القومي الإجمالي في الأراضي الفلسطينية سنوياً. ومن المهم الإشارة إلى أن الشيكل شهد في تلك الفترة تضخماً مرتفعاً، وهو ما انعكس في الارتفاع النسبي لكمية الريع السيادي الضائع. ولقد قدرت الدراسة ذاتها كمية ريع السيادة الضائع للفترة ما بعد اتفاق أوسلو (1994-1998)، فوجدته يتراوح بين 0.31% و1.68% من الناتج القومي الإجمالي سنوياً.[2]
هناك دراسة أخرى صدرت في العام 1996 سعت إلى تقدير قيمة كمية ريع السيادة المحتمل للدولة الفلسطينية في حال قامت بإصدار عملتها الوطنية الخاصة بها، فوجدت أنه مع معدل نمو 5% سنوياً، ومعدل تضخم 5%، فإن إيراد ريع السيادة سوف يبلغ 4.5% من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً خلال السنوات الخمس الأولى. هذا المعدل المرتفع هو أساساً بسبب إحلال العملة الجديدة محل العملات الأخرى. أما بعد السنوات الخمس، وإنجاز إحلال العملة الوطنية محل العملات الأخرى، فإن كمية ريع السيادة السنوي لن يزيد على 1.9% من الناتج المحلي الإجمالي.[3]
حاججت دراسة أجريت في العام 2004 بأن التقديرات السابقة لريع السيادة في فلسطين مبالغ بها. واستندت الدراسة إلى مسح قام به البنك المركزي البريطاني عن قيمة ريع السيادة في 44 دولة خلال 3 فترات زمنية بين 1979 و1993. وتوصل المسح إلى أنه في ظل معدل تضخم متهاود، وبنك مركزي مستقل نسبياً، فإن قيمة ريع السيادة تراوحت بالمتوسط بين 0.5% و1% فقط من الناتج المحلي الإجمالي في تلك الدول.[4]
واضح أن تباين التقديرات في الدراسات التي أجريت عن ريع السيادة في فلسطين، ناتج عن عدم توفر تقديرات دقيقة لكمية الطلب على النقود في الأراضي الفلسطينية، ولمعدل النمو السنوي في هذا الطلب. ومن بين الأسباب التي تعقد عملية التقدير وجود ثلاث عملات في التداول، وغياب المعلومات الدقيقة حول نسب استخدام هذه العملات.
ما الذي يمكن استنتاجه من قيمة ريع السيادة الضائع والممكن في الأراضي الفلسطينية؟ نتيجتان: أولاً، أن مبالغ ريع السيادة التي ضاعت، ولا تزال تضيع على الطرف الفلسطيني، نتيجة استخدام الشيكل أساساً في الاقتصاد الفلسطيني، ليست بالمبالغ التافهة، وأن على الطرف الفلسطيني المطالبة بها، وعلى الطرف الإسرائيلي واجب ردها إلى سلطة النقد الفلسطينية. ثانياً، أن إيراد ريع السيادة الذي يمكن إحرازه في حال إصدار عملة وطنية خاصة بفلسطين ضئيل نسبياً، ولا يبرر، بحد ذاته، التعرض للمخاطر الجسيمة المترافقة مع إصدار عملة فلسطينية ضمن الظروف الراهنة.
[1] يمكن للفرد طبعاً أن يقوم بشراء المعادن الثمينة من السوق لقاء ما لديه من أوراق بنكنوت نقدية، أي استبدال العملة بالمعادن، ولكن الحكومة لا تضمن للفرد أن قيمة المعدن الثمين تظل ثابتة على حالها بالنسبة للقيمة الإسمية للنقود التي يحملها.
[2] Hamed & Shaban (1993) and Hamed (1999) ”Current monetary arranangments between Isreal and the West Bank and Gaza Strip and possible alternatives” paper commissioned for the EU.
[3] Arnon & Spivak (1996): On the introduction of a Palestinian currency. Middle East Business and Economic Review, 8 (1): 1-14.
[4] Cobham (2004): Alternative currency arrangement. In The Economics of Palestine. David Cobham and Numan Kanafani (eds.) Rutledge, London.