منحنى الفيل

The Elephant Curve

 

اكتسب موضوع توزيع الدخل العالمي وتطوره أهمية متزايدة مع تصاعد وتيرة العولمة. وتكرر السؤال عن من الذي استفاد ومن الذي خسر بتأثير العولمة، وعما إذا أدت العولمة الى زيادة أو تقليص اللامساواة الدولية في توزيع الدخل. هناك ثلاثة مناهج احصائية مختلفة لقياس توزيع الدخل العالمي ودراسة تطور اللامساواة الدولية.

النهج الأول يقيس درجة اللامساواة عبر قياس التباين بين متوسطات الدخل في الدول المختلفة. هذه الطريقة تركز على قياس التباين بين الدول وليس بين الأفراد نظراً لأن متوسط الدخل لا يعني أنّ كافة الأفراد في الدولة يحصلون فعلياً عليه. متوسط الدخل في كل دولة من دول العالم يدخل في الحساب في هذا النهج دون اعتبار لأية عوامل أخرى، بحيث أن أهمية كل متوسط دخل (في دولة مثل الهند مثلا بعدد سكانها 1.4 مليار) تعادل أهمية كل متوسط في دولة أخرى (في الكويت بعدد سكانها على الذي لا يتجاوز الخمسة ملايين، على سبيل المثال). هذا يعني أن تأثير تحسن متوسط الدخل في الهند على توزيع الدخل العالمي سوف يعادل تأثير تحسن الدخل في أية دولة فقيرة أخرى بغض النظر عن عدد سكانها. بكلمات أخرى، هذا النهج لا يقيس اللامساواة بين الأفراد في العالم ولكن يقيس التباين بين متوسطات الدخل في الدول المختلفة، كما أنه لا يصور فعليا تطور اللامساواة الدولية نظرا لأنه لا يقوم بترجيح أثر تطور متوسط الدخل في كل دولة بعدد سكانها.

النهج الثاني يأخذ بالاعتبار متوسط الدخل في كل دولة من دول العالم كما في السابق، ولكنه يقوم أيضاً بترجيح هذا المتوسط بعدد السكان في كل دولة. الإرتفاع في الدخل المتوسط في دولة فقيرة نسبياً وذات عدد السكان المرتفع (مثل الهند) سيكون له أثر أكبر في تقليص اللامساواة الدولية هنا من ارتفاع موازٍ في الدخل المتوسط في دولة ذات عدد سكان محدود (مثل جزر القمر مثلا). لاحظ أن النهجين الأول والثاني يأخذان بالإعتبار متوسطات الدخل في الدول المختلفة (الناتج المحلي الإجمالي للفرد) وليس الدخل الفعلي للأفراد، أي أنهما يقيسان التباين في متوسطات الدخل بين الدول مع إهمال التباين في توزيع الدخل داخل الدول المنفردة.

النهج الثالث يقيس التباين في توزيع الدخل بين الأفراد في كافة انحاء العالم دون اعتبار للدول التي يقيمون فيها. في حين يقوم النهجان الأول والثاني على تجميع الدول ذات الدخل المتوسط المتقارب معاً (من أفقر 10% من دول العالم الى أغنى 10%)، يتم التجميع هنا بين الأفراد مباشرة: أفقر 10% من سكان العالم (وهؤلاء يأتون بالطبع من دول مختلفة) الى أغنى 10% من أفراد العالم. أي أن اللامساواة في النهج الثالث تقوم على أساس الفرد والدخل الفعلي الذي يحصل عليه وليس على متوسط الدخل في الدولة التي يقيم فيها. ويطلق على اللامساواة التي يتم حسابها بهذه الطريقة اسم اللامساواة العالمية (Global Inequality).  ويتم الحصول على مستويات الدخل الفعلية للأفراد في كل دولة مباشرة من مسوح الأسر المعيشية (Household Syrveys) التي تقوم بها مراكز الإحصاء بشكل دوري في الدول المختلفة.

أُمّ المناظرات عن اللامساواة

في إطار أبحاثه الرائدة عن الفقر وتوزيع الدخل نشر برانكو ميلانوفتش دراسة في العام 2012 سعى فيها الى تحديد من هم الرابحون والخاسرون، خلال السنوات الهامة في صعود حركة العولمة، وذلك بين تاريخ انهيار حائط برلين وتاريخ اندلاع الأزمة المالية العالمية، أي خلال العقدين بين 1988 و2008.

توصلت دراسة ميلانوفتش أولاً إلى أن اللامساواة الدولية في توزيع الدخل ازدادت خلال فترة الدراسة في حال استخدام النهج الأول لحساب التفاوت الدولي. وحدث هذا بشكل عام لأن الدول الغنية نمت بشكل أسرع من الدول الفقيرة، ولأن معجزة النمو في الصين والهند ليس لها تأثير قوي نظرا لأن أرقام نموهما لا يتم ترجيحها بأعداد السكان العالية فيهما. أما عند استخدام النهج الثاني في حساب اللامساواة فإن النتائج تشير الى أن سنوات العولمة ترافقت مع تراجع في اللامساواة الدولية. وسبب هذا يعود حصرا على النمو الإستثنائي للدخل المتوسط في الصين والهند، البلدان اللذان انطلقا من مستوى دخل متدني جدا في العقود الأخيرة من القرن الماضي. ويذكر ميلانوفتتش أن هذا يحل لغز "أم المناظرات" التي سادت بين أنصار العولمة ومناهضيها، اذ في حين يشدد أنصار العولمة على قياس اللامساواة الدولية حسب النهج الإحصائي الثاني، يصرّ معارضوها على القياس بالنهج الأول.

منحني الفيل

 ولكن ماذا حدث لتوزيع الدخل خلال سنوات العولمة إذا ماتم قياس اللامساواة حسب االنهج الإحصائي الثالث، وهو بطبيعة الحال أدق الطرق لتصوير توزيع الدخل العالمي ولملاحقة تطور هذا التوزيع عبر الزمن؟ هذا تحديدا ما قدمته دراسة ميلانوفتش. ولقد لخص الباحث نتائج دراسته في شكل بياني مبسط. وحظي هذا الشكل البياني بانتشار واسع وأطلق عليه اسم "منحنى الفيل" نظرا لأنه يشابه رسم الفيل بظهره المحدودب وخرطومه المرتفع الى الأعلى.

يسجل المحور الأفقي في الشكل 1 توزع سكان العالم حسب مستويات دخلهم. أفقر 5% من سكان العالم موجودون على أقصى الطرف الأيسر من المحور الأفقي. ويأتي بعدهم ثاني أفقر عشيّر من سكان العالم، وهكذا دواليك حتى نصل إلى أغنى 5% من سكان الكرة الأرضية، وهم في أقصى الطرف الأيمن من المحور الأفقي. المحور العمودي يقيس معدلات النمو الحقيقية المتوسطة للدخل الذي حصل عليه كل عشيّر خلال العقدين بين 1988 و2008. لاحظ اذن أن المنحني المرسوم، "منحنى الفيل"، يصور على ذلك معدلات نمو الدخل وليس مستويات الدخل ذاتها. مستويات الدخل النسبية مسجلة على المحور الأفقي للشكل البياني.

تم التوصل الى أرقام الدخل الفعلية لأفراد العالم من خلال مسوح الأسر المعيشية التي تقوم بها مراكز الإحصاء بشكل دوري كل 5 سنوات في مختلف الدول، وبلغ عدد هذه المسوح 565 مسح. كما تم تحويل كافة الدخول من العملات المحلية الى دولار مكافئ القيمة الشرائية.

شكل 1: معدلات النمو في الدخل الحقيقي لسكان العالم المصنفين بمجموعات عشرية من الأفقر الى الأغنى خلال 1988-2008 (نسبة مئوية)

 

الرابحون والخاسرون من العولمة

توصلت الدراسة الى عدد مهم من النتائج، على رأسها أن اللامساواة الدولية في توزيع الدخل العالمي لم يطرأ عليها تغير كبير خلال عقديّ العولمة، اذ أن قيمة "معامل جيني" ظلت على حالها تقريبا في حدود 70%. وهذه النسبة تعني عملياً أنه إذا ما قسمنا الدخل العالمي الى نصفين متساويين فإن أغنى 8% من سكان العالم يحصلون على أحد النصفين وال 92% المتبقية تحصل على النصف الآخر (النسب المناظرة هي 78%-22% في أمريكا، و71%-29% في المانيا). ولكن عقديّ العولمة ترافقا مع إعادة ترتيب وإصطفاف في التوزيع بين فئات الدخل المختلفة في العالم كما يوضح "منحنى الفيل". ويمكن تلخيص اعادة الإصطفاف هذه بالنقاط التالية:

  • هناك فئتان حصدتا معظم المكاسب خلال عقديّ العولمة، أولهما الأغنياء جدا، أي أغنى 5% من سكان العالم، الذين شهد دخلهم الحقيقي نموا بمقدار 60% خلال العقدين، كما يظهر في أقصى نقطة على خرطوم الفيل في الشكل البياني. لا بل أن المكاسب تركزت بدرجة أكبر لدى أغنى 1% من سكان الكوكب، الذين بلغ عددهم نحو 60 مليون شخص (12% منهم مواطنون في الولايات المتحدة). ثانيهما، الطبقة الوسطى التي يقع دخلها بين العشيّر الخامس والسادس في التوزيع. الدخل المتوسط لهذه الطبقة الإجتماعية شهد نموا يفوق 70% خلال العقدين. وتضم هذه الطبقة نحو 200 مليون صيني، و90 مليون هندي، و30 مليون من اندونيسيا والبرازيل ومصر وغيرهم.
  • الخاسرون خلال عقدي العولمة هم أيضا فئتان، الأولى أفقر 5% من سكان العالم (موقعها في أقصى اليسار على المحور الأفقي). ويقيم معظم هؤلاء في أفريقيا جنوب الصحراء، ومنهم أيضا من يقيم في أمريكا اللاتينية وبعض الدول الشيوعية سابقا. وفي حين كان الدخل المتوسط لكل إفريقي جنوب الصحراء يعادل 2/3 من وسيط دخل الفرد العالمي في 1988 فإن هذا هبط الى أقل من 1/2 من وسيط الدخل في 2008. المجموعة الثانية من الخاسرين هي التي يطلق عليهل ميلانوفتش اسم "الشرائح العليا من الطبقة العالمية المتوسطة". ويقع دخل هذه الشرائح بين العشريّن السابع والتاسع. لم يشهد دخل هذه الطبقة نموا يذكر، بل شهد أحيانا تراجعا، خلال العقدين. وتضم هذه المجموعة الكثيرين من مواطني الدول الإشتراكية السابقة، ومن العمال غير المهرة في الدول الغنية، اضافة الى أعداد وفيرة من الطبقة المتوسطة في أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط.
  • شهد توزيع الدخل العالمي اذن اعادة اصطفاف مهم خلال عقديّ العولمة. وجاء هذا أساسا نتيجة نمو دخل الثلث الأفقر من سكان الكرة الأرضية (باستثناء أفقر 5%) على معدل حقيقي يتراوح بين 40% و70%. وتجسد هذا الإنجاز الباهر في انخفاض نسبة أفراد العالم الذين يعانون من الفقر المطلق (الذين دخلهم اليومي أقل من 1.25 دولار مكافئ قوة شرائية) من 44% في العام 1988 إلى 23% من سكان العالم في 2008. ويتوجب التنويه أن الجزء الأكبر من الذين استفادوا من هذا الإنجاز هم مواطنون صينيون في المحل الأول، وهنود في المحل الثاني.

(نشرت في المراقب الإقتصادي، العدد 61-62 ، 2020).