المرض الهولندي

The Dutch Disease

 

تم في العام 1959 اكتشاف واحد من أكبر حقول الغاز الطبيعي في العالم في شمال شرق هولندا. وبعد فترة من الإزدهار الإقتصادي التي ترافقت مع استغلال هذا الحقل، بدأت بوادر الركود والبطالة تظهر على الاقتصاد الهولندي في عقد الستينات. ولاح أنّ هناك ترافقاً بين إزدهار تصدير الموارد الطبيعية والركود اللاحق الذي يصيب القطاعات الإنتاجية في الاقتصاد. وعلى ضوء هذا أطلقت مجلة "الايكونومست"، في العام 1977، اسم "المرض الهولندي" على تلك المفارقة. وانتشر الاسم وشاع حتى قبل أنّ يكون وراءه تحليل اقتصادي متماسك يفسر ويثبت وجود علاقة ارتباط بين تصدير الخامات الطبيعية من بلد ما وانكماش القطاعات الإنتاجية فيه.

 

المرض الهولندي: العوارض والمسببات

يقترح التفسير المبسط والمباشر للمرض الهولندي أنّ ازدهار تصدير الخامات الطبيعية (النفط والغاز بشكل خاص) من دولة ما يؤدي إلى تدفق كبير للعملة الأجنبية إلى البلد، أي إلى ارتفاع الطلب على العملة المحلية. وهذا يؤدي بالتالي إلى ارتفاع قيمة العملة المحلية بالنسبة للعملات الأجنبية. وهو ما يتسبب في جعل أسعار الواردات من الخارج أكثر رخصاً وأكثر تنافسية، في حين يجعل أسعار صادرات الدولة أعلى (بالعملات الأجنبية)، أي تصبح بضائع الدولة المعنيّة أقل تنافسية في السوق الدولية. وكل هذا ينعكس سلباً على القطاعات الإنتاجية (الزراعة والصناعة) في الاقتصاد. ونظراً لأن قطاع تصدير الخامات يوظف عادة عدداً محدوداً من العمال، فإنّ استمرار إزدهار هذا القطاع يعجز عن امتصاص البطالة التي تتولد في القطاعات الإنتاجية، وهو ما يؤدي إلى انتشار البطالة. باختصار إذن، المرض الهولندي هو انكماش القطاعات الإنتاجية في الاقتصاد نتيجة ارتفاع سعر صرف العملة المحلية بسبب انتعاش تصدير الموارد الطبيعية وتدفق العملات الأجنبية إلى البلاد.

يستند هذا التحليل على فرضين أساسيين: اولاً، أنّ الدولة المعنية تتبنى نظام سعر الصرف العائم لعملتها، بحيث تتحكم قوى العرض والطلب الحرة بسعر صرف العملة. ثانياً، أنّ عرض المورد الطبيعي، والطلب الخارجي عليه، لا يتأثران بالتبدل في سعر صرف العملة المحلية.

 

البضائع التبادلية وغير التبادلية

جرى في العام 1982 وضع إطار نظري أكث ر تماسكاً لفكرة "المرض الهولندي" ويقوم هذا الإطار على أرضية التمييز بين نوعين من البضائع والخدمات التي يتم إنتاجها في الاقتصاد، بضائع قابلة للتبادل التجاري عبر الحدود (Tradable Goods)، وبضائع غير قابلة للتبادل عبر الحدود (Non-Tradables). وهو ما سنطلق عليه اسم بضائع "تبادلية" وبضائع "غير تبادلية".

 

البضائع غير التبادلية هي السلع والخدمات التي يتم إنتاجها واستهلاكها محلياً والتي ليس لها بدائل من الاستيراد. وأوضح مثال عليها المباني والمساكن والخدمات الشخصية، وكل ما لا يمكن استيراده من الخارج، سواءاً بسبب الصعوبات اللوجستية/ الطبيعية أو القيود السياساتية. يتمثل الفرق الجوهري بين السلع التبادلية وغير التبادلية في أنّ أسعار الأولى تتحدد في السوق الدولية، في حين تتحدد أسعار الثانية بشروط العرض والطلب الداخلية في كل بلد حدة. البضائع غير التبادلية، على عكس التبادلية، لا تواجه منافسة خارجية، وعلى ذلك فإن تطور إنتاجية العمل فيها غالباً ما يكون أدنى من تطور إنتاجية العمل الدولية في إنتاج السلع التجارية. ونظراً لأن زيادة الأجور غالبا ما تكون موحدة في الاقتصاد فان أسعار البضائع غير التبادلية تزداد بشكل أسرع من أسعار البضائع التبادلية. هذا العرض السريع يتيح أمامنا الفرصة لتقديم تعريف مستجد للعولمة: إنها المسار الذي يتم فيه انتقال عدد متزايد من البضائع والخدمات من خانة غير التبادلية إلى خانة البضائع والخدمات التبادلية.

يقترح التفسير النظري للمرض الهولندي إن تأثير انتعاش تصدير الخام على ركود القطاعات الإنتاجية وارتفاع سعر الصرف الحقيقي يتم عبر قناتين.

  • قناة تحويل الموارد: يؤدي ازدهار قطاع تصدير الخام إلى جذب موارد العمل ورأس المال إليه من القطاعات الإنتاجية الأخرى في الاقتصاد، وهو ما ينعكس في ركودها. ولكن هذا الأثر ضعيف إذا أن القطاع الاستخراجي لا يستخدم موارد محلية كبيرة.
  • قناة الإنفاق: ينتج عن زيادة الدخل، التي تتولد من انتعاش تصدير الخام، ارتفاع الطلب الكلي في الاقتصاد على كل من السلع والبضائع التبادلية وغير التبادلية، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع أجور العمال. وفي حين يستطيع المنتجون للسلع غير التبادلية تعويض ارتفاع الأجور بزيادة أسعار منتجاتهم، إلا أنّ هذا غير متاح أمام منتجي السلع التبادلية لأنهم يواجهون منافسة من البضائع المستوردة. وعلى ذلك فإن ارتفاع الأجور يؤدي إلى انخفاض أرباح عمليات انتاج السلع التبادلية، وهو ما يقود إلى ركود القطاعات الإنتاجية والى ارتفاع سعر صرف العملة الحقيقي.

 

المرض الهولندي في فلسطين

يؤشر العرض النظري السابق إلى أنّ عوارض المرض الهولندي يمكن مبدئياً أن تظهر في أي اقتصاد يشهد تدفق مقادير كبيرة نسبياً من العملات الأجنبية، بغض النظر عن مسببات هذا التدفق. ولقد تم توجيه الاهتمام بشكل خاص إلى الآثار المشابهة للمرض الهولندي التي يمكن ان يتركها تدفق تحويلات المغتربين على اقتصاد بعض دول أمريكا اللاتينية. وفي هذا المجال تحديداً يصبح موضوع المرض الهولندي مهماً بالنسبة للاقتصاد الفلسطيني، الذي بلغت نسبة المساعدات الخارجية والتحويلات الخاصة وتحويلات العمال من الخارج فيه نحو 25% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2015.

إنّ تباين أسباب تدفق الدخل من الخارج إلى فلسطين عن الحالة التقليدية للمرض الهولندي تعني أنّ قنوات التأثير على الاقتصاد تعمل هنا بشكل مختلف بعض الشيء:

  • قناة تحويل الموارد: لا يتم استنزاف العمل الماهر ورأس المال في حالة فلسطين بانتقاله من القطاعات الإنتاجية إلى قطاع تصدير الخام، ولكنه يحدث بانتقاله من القطاعات الإنتاجية الفلسطينية إلى الاقتصاد الإسرائيلي. وبالتوازي مع الأثر السلبي لهذا على الإنتاج، يؤدي انتقال العمل الى اسرائيل إلى تدفق المزيد من الموارد الخارجية (أجور العمال) الى الإقتصاد الفلسطيني المحلي.
  • قناة الإنفاق: يؤدي تدفق أكثر من 3 مليار دولار سنوياً من الخارج الى فلسطين إلى ارتفاع الطلب الكلي وإلى ارتفاع أسعار السلع غير التبادلية بشكل غير متناسب مع الطاقة الإنتاجية للاقتصاد المحلي. والأثر السلبي لهذا على القطاعات الإنتاجية (الزراعة والصناعة) يزداد بالمنافسة الشديدة التي تواجهها السلع التبادلية من المنتجات الإسرائيلية.

 

يعرض الشكل 1 تطور سعر الصرف الفعال، الاسمي (NEER) والحقيقي (Reer)، للشيكل في فلسطين خلال الفترة 1996-2017. يقيس المنحنى الإسمي تطور سعر صرف الشيكل تجاه سلة عملات البلدان التي تستقبل الصادرات الفلسطينية. في حين يأخذ المنحنى الحقيقي تطور سعر الصرف الفعال الإسمي مضافاً إليه التباين في تطور الأسعار بين فلسطين والبلدان التي تستقبل الصادرات الفلسطينية. لاحظ أولاً أنّ الارتفاع في سعر الصرف يعني تراجع تنافسية البضائع الفلسطينية في أسواق التصدير. ثانياً، إنّ هذه المنحنيات خاصة بالشيكل بالعلاقة مع الاقتصاد الفلسطيني وهي تختلف عن أسعار الصرف الخاصة بالاقتصاد الإسرائيلي (نظراً لأن الدول التي تستقبل الصادرات الإسرائيلية تختلف عن تلك التي تستقبل الصادرات الفلسطينية، ونظراً للاختلاف في معدلات التضخم المحلي بين إسرائيل وفلسطين).

شكل 1: تطور سعر الصرف الفعال الإسمي والحقيقي للشيكل بالنسبة لفلسطين

(رقم قياسي، سنة الأساس 1996=100)

يوثق الشكل 1، التراجع المستمر في تنافسية البضائع الفلسطينية في أسواق التصدير. ويعكس المنحنى الإسمي التراجع بسبب ارتفاع قيمة الشيكل بالنسبة للعملات الأخرى (في الدول التي تستقبل الصادرات الفلسطينية)، في حين تعكس حركة المنحنى الحقيقي أثر التبدل في سعر الصرف الإسمي للشيكل بالإضافة إلى ارتفاع الأسعار في فلسطين بأسرع من ارتفاعها في الدول المتلقية للصادرات الفلسطينية. وجزء مهم من هذا الارتفاع يعود، على الأرجح، إلى تدفق الدخل من الخارج وإلى أعراض المرض الهولندي. وبشكل عام يمكن الإستنتاج أن تدفق الدخل والمساعدات من الخارج هو إذن سيف ذو حدين، فهو من جهة يرفع مستوى الحياة في البلاد، ولكنه من جهة ثانية يترك انعكاسات سلبية على قطاعات إنتاج السلع التبادلية في الاقتصاد وعلى التصدير. ومن المهم هنا التأكيد على أثر القيود المتنوعة التي يفرضها الإحتلال الإسرائيلي على ارتفاع الأسعار في فلسطين.

(نشرت في المراقب الإقتصادي، العدد 55، سنة 2019).