السياسات الملائمة للتعامل مع التقلبات الاقتصادية

السياسات الملائمة للتعامل مع التقلبات الاقتصادية

 Policies to Counter Economic Flactuations

 

ذكرنا في الحلقة السابقة أن فترة نصف القرن الماضي شهدت ظهور عدة تيارات فكرية في مجال الاقتصاد الكلي. ورأينا أن لكل واحد من تلك التيارات تفسيره المختلف لأسباب حدوث التقلبات الاقتصادية. ولكل تيار موقفه المختلف فيما يخص دور الدولة في معالجة ما ينتج عن التقلبات من مشاكل الانكماش الاقتصادي والبطالة أو مشاكل التضخم والأزمات المالية. وخلصنا إلى القول إنه على الرغم من الفروقات الكثيرة الموجودة بين تلك التيارات إلا أن كل واحد منها ينتمي إما إلى مرجعية المدرسة الكلاسيكية أو المدرسة الكينزية. المدرسة الأولى ترى أن الاقتصاد الحر قادر على التعامل لوحده مع التقلبات الاقتصادية وأن تدخل الدولة يؤدي إلى زيادة أضرار تلك التقلبات وليس إلى تقليصها. في حين ترى المدرسة الكينزية أنه إذا تم ترك التقلبات الاقتصادية لأليات السوق وحدها فإن فترات الكساد أو التضخم قد تأخذ وقتاً طويلاً وتلحق أضراراً كبيرة يمكن تجنبها عن طريق تفعيل السياسات المالية والنقدية للدولة. ومن المعروف أن توجه المدرسة الكلاسيكية كان يمثل التيار الرئيسي في الفكر الاقتصادي الغربي حتى حدوث أزمة "الكساد العظيم " في ثلاثينات القرن الماضي. وأن أحد نتائج تلك الازمة كان ظهور الاتجاه الكينزي الذي أصبح يمثل التيار الرئيسي في الدوائر الأكاديمية الأمريكية والأوروبية ويسترشد به صناع السياسات الاقتصادية منذ مطلع الأربعينيات وحتى منتصف السبعينات من القرن الماضي. ولكن عادت طروحات التوجه الكلاسيكي بعد ذلك التاريخ لتصبح التوجه الرئيسي في الاقتصاد وظلت كذلك حتى السنوات الأخيرة من العقد الأول من القرن الواحد وعشرين ابان ظهور الأزمة المالية العالمية في عام 2008.

سنعرض في الفقرة الأولى من هذه الحلقة إلى نقاط الاختلاف الجوهرية بين التوجهين الكلاسيكي والكينزي، وهي النقاط التي تشكل الخلفية النظرية لمواضيع الخلاف حول دور الدولة في النشاط الإقتصادي وحول فعالية سياساتها الاقتصادية. وفي الفقرة التالية سنتعرض للعناصر الرئيسية التي شكلت مضمون التوجه الكلاسيكي الجديد الذي هيمن على الاقتصاد وعلى اتساع العالم في العقود الثلاثة الماضية في سياق أيديولوجية "الليبرالية المحدثة"(Neoliberalism). ونتعرض في الفقرة الثالثة إلى الأضرار التي لحقت بالاقتصاد العالمي من جراء تبني تلك الأيديولوجية، وهي الإيديولوجية التي كانت مسؤولة إلى حد بعيد عن الأزمة العالمية التي إستفحلت في 2008 ومازالت تداعياتها تتفاعل حتى اليوم.

 

نظرية للسعر ونظرية للدخل

يرتكز التوجه الكلاسيكي في الاقتصاد الكلي على الاعتقاد بأن النظام الرأسمالي، إذا كان حراً، فإنه قادر على تحقيق التشغيل الكامل لليد العاملة في ظرف "توازن مستقر". وتعبير "التشغيل الكامل" في المدرسة الكلاسيكية يعني "أن كل من هو مستعد للعمل وفق الأجر السائد في السوق يجد عملاً"، أي أنه من الممكن حدوث بطالة طوعية، ولكن من غير الممكن حدوث بطالة قهرية (غير اختيارية) لمدة طويلة. والتوازن المستقر يعني أنه إذا حدث، ولإي سبب كان، إنحراف عن وضع التوازن، فإن في تركيبة النظام آلية داخلية تعمل على استعادة التوازن. هذا يعني أن البطالة تحدث فقط عندما يكون الاقتصاد في وضع غير متوازن وتنتهي عندما يستعيد الاقتصاد وضعه المتوازن. وأن الآلية الداخلية التي تضمن "استقرار التوازن" هي آلية الأسعار في الأسواق الثلاثة: الأجور في سوق العمل، وسعر الفائدة في سوق الإئتمان، والأسعار في سوق السلع والخدمات. وعندما تحدث بطالة عن العمل بسبب وجود وضع غير متوازن في أحد الاسواق، فإن سعر ذلك السوق يرتفع إذا كان عدم التوازن ناجماً عن وجود فائض طلب في السوق، وينخفض إذا كان عدم التوازن ناشئ عن وجود فائض في العرض. وفي كلتا الحالتين يتم إستعادة التوازن والقضاء على البطالة.

لا يعترض التوجه الكينزي على الاعتقاد الكلاسيكي بقدرة آلية السعر، في كل سوق من الأسواق الثلاثة، على أخذ هذا السوق إلى حالة الاستقرار المتوازن، ولكنه يعترض على الاعتقاد بأن تحقيق التوازن المستقر في الأسواق الثلاثة يعني بالضرورة تحقيق وضع التشغيل الكامل لليد العاملة. فالاتجاه الكينزي يرى أن لكل سعر في الأسواق الثلاثة وجهان: السعر هو" تكلفة" للبعض وهو في ذات الوقت "دخل" للبعض الأخر. ولذلك فإن إنخفاض الأجر مثلاً يعمل على تخفيض تكلفة الإنتاج وبالتالي يزيد كمية العمال المطلوبة من ناحية، ولكنه في ذات الوقت يمثل إنخفاضاً في دخل العمال وبالتالي انخفاضا في حجم الطلب على السلع والخدمات. يرى الاتجاه الكينزي أن آلية الأجور لا تضمن حدوث التشغيل الكامل. فالتشغيل الكامل بحاجة إلى مقدار معين من الاستثمار وبالتالي مقدار معين من الطلب على السلع والخدمات، أي مقدار معين من الدخل. ولذلك فإن الاتجاه الكينزي مبني على أساس أن المتغير الأساسي في الاقتصاد الكلي هو"الدخل" وليس "السعر". كما يرى الاتجاه الكينزي أن الذي يحدد الدخل هو حجم الطلب الكلي الفعال (أي الاستهلاك العام + الاستثمار العام + الإنفاق الحكومي + صافي الصادرات)، وأن هناك في أي وقت مقدار معين "للطلب الكلي الفعال" يكون ملائماً لتحقيق التوظيف الكامل لليد العاملة وأن أي مقدار أقل من ذلك يتسبب في حدوث بطالة عن العمل وأي مقدار أكبر من ذلك يتسبب في التضخم.

التوليفة النيو كلاسيكية

تمكنت المراكز الأكاديمية في بريطانيا والولايات المتحدة في مطلع الخمسينات من تكوين نموذج نظري جديد يجمع بين الاتجاهين الكلاسيكي والكينزي، فيما أصبح يعرف باسم نموذج "التوليفة النيو كلاسيكية" (The Neoclassical Synthesis).وهذه التوليفة عبارة عن نموذج لنظرية عامة تحدد آليات النشاط الاقتصادي وفق التوصيف الكينزي في الأمد القصير ووفق التوصيف الكلاسيكي على الأمد الطويل. أي أن عمليات التكيّف التي تحدث في فترات الانتقال من وضع توازني إلى اخر تتم على الأمد القصير وفق الألية الكينزية (أي وفق رد فعل الكميات: تغيير في الدخل والتشغيل)، وتتم على الأمد البعيد وفق الآلية الكلاسيكية (أي بواسطة رد فعل الأسعار: تغيير في أسعار السلع والخدمات وسعر الفائدة ومعدل الأجور).

 

وفي أواخر الخمسينات تمت إضافة ملحق هام لنموذج التوليفة النيو كلاسيكية هو نموذج "منحنى فيلبس" الذي يقول بوجود علاقة مفاضلة/مقايضة (Trade-Off) بين هدف تقليص معدل البطالة وهدف تقليص معدل التضخم والذي تمت صياغته بعد اكتشاف علاقة عكسية بين معدل البطالة عن العمل ونسبة تغير الإجور الإسمية في بيانات السلاسل الزمنية الخاصة بالاقتصاد البريطاني والاقتصاد الأمريكي. ولقد أوجد هذا النموذج بيئة مساعدة لصناع السياسات الاقتصادية حيث أنه أصبح بالإمكان معرفة "ثمن" سياسة تقليص معدل البطالة عن العمل مقدراً بزيادة محددة في معدل التضخم، وكذلك معرفة "ثمن" تقليص معدل التضخم مقدراً بزيادة محددة في معدل البطالة.

كان نموذج "التوليفة النيو كلاسيكية"، من حيث تأثيره على صياغة السياسات الاقتصادية، أقرب إلى الاتجاه الكينزي منه إلى الاتجاه الكلاسيكي نظراً لأن السياسات الخاصة بالتقلبات الاقتصادية هي سياسات تتعلق بالأمد القصير. ولذلك يمكن القول، كما ذكرنا في السابق، أن الاتجاه الكينزي ظل هو الاتجاه المهيمن في الاقتصاد منذ مطلع الأربعينات وحتى منتصف السبعينات من القرن الماضي، وهي الفترة التي يطلق عليها إسم العصر الذهبي للاقتصاد الكلي. لأنها كانت فترة نمو اقتصادي متواصل في معظم البلدان الصناعية والبلدان النامية. وقد انتهت تلك الفترة عندما أخذت معظم البلدان الصناعية تعاني من مشكلة مزدوجة هي مشكلة "الركود والبطالة عن العمل" المصحوبة بمشكلة الارتفاع المتواصل للأسعار والتضخم التي دعيت مشكلة الركود التضخمي (Stagflation).

 

المدرسة النقدية

انفرط الإجماع الأكاديمي حول نموذج التوليفة النيو كلاسيكية لإنها لم تقدم السياسات الملائمة لمعالجة مشكلة الركود التضخمي. وظهرت تيارات فكرية جديدة بعضها يدعم الاتجاه الكلاسيكي والآخر يدعم الاتجاه الكينزي. كان تيار المدرسة النقدية أول من ظهر كتيار يعمل على تحديث التوجه الكلاسيكي القائل بضرورة تكريس حرية السوق وتقليص دور الدولة في الاقتصاد إلى أقل الحدود. تميز هذا التيار بالمقولات الأربعة التالية:

  • ليس هناك جدوى من استعمال السياسة المالية لأن تمويل الإنفاق الحكومي بالاقتراض من السوق (عجز الموازنة) يقود إلى المنافسة مع القطاع الخاص في سوق الإئتمان. ويؤدي إلى رفع سعر الفائدة وتقليص الاستثمار الخاص (Crowding-Out Effect).
  • السياسة النقدية فعالة ولكن ليس من المفيد استعمالها بحسب مقتضى الحال (Discretionary Use) لأن تأثيرها يحدث بعد فترة زمنية غير معروفة بدقة. وغالباً ما يظهر تأثيرها في الوقت الخاطئ. ولهذا فمن الضروري أن يقلع البنك المركزي عن الاستعمال الحر لأدوات السياسة النقدية ويلتزم بزيادة الكتلة النقدية بنسبة معينة ثابتة، وتكون تلك النسبة على علاقة مع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي وبشكل يضمن وجود السيولة المناسبة لتحقيق استقرار مستوى الأسعار العام.
  • المفاضلة بين هدف تقليص معدل البطالة وتقليص معدل التضخم وفق منحنى فيلبس تصح في الأمد القصير فقط، في الفترة التي يتصرف بها المشتركون في النشاط الاقتصادي على أساس أن الاسعار مستقرة. ولكن عند حدوث أي نسبة من التضخم، كثمن لسياسة تقليص معدل البطالة، فإن توقعات المشتركين في النشاط الاقتصادي تصبح توقعات تضخمية مما يعمل على زيادة معدل التضخم بشكل مستمر.
  • استبدلت المدرسة النقدية مفهوم التشغيل الكامل بمفهوم جديد هو مفهوم معدل البطالة الطبيعي (Natural Rate of Unemployment). ويعرّف هذا بأنه معدل البطالة الذي يكون فيه معدل التضخم الفعلي مساوياً لمعدل التضخم المتوقع. وأن أية محاولة لتقليص ذلك المعدل عبر استعمال الدولة لسياسات التوسع لا يمكن أن تحقق سوى نجاحاً مؤقتاً لا يمكن أن يستمر في الأمد الطويل.

يتضح من هذه النقاط أن المدرسة النقدية عارضت كل الأطروحات الكينزية وأعادت تكريس الاعتقاد بقدرة النظام الرأسمالي على تحقيق التشغيل الكامل بدون تدخل الدولة. كما أكدت أن التدخل لا يحقق التشغيل الكامل ولكنه يكرس التضخم. ولقد خرج من عباءة المدرسة النقدية تياران أعادا صياغة نظرية المدرسة الكلاسيكية القديمة وفق مفاهيم وأدوات تحليل جديدة، وهذان التياران هما؛ تيار التوقعات العقلانية، وتيار دورة العمل الحقيقية. وأصبح من المتعارف عليه تسمية المساهمات النظرية لهذين التيارين باسم "مدرسة الكلاسيكية الجديدة"(New Classical ).

 

الكينزية المحدثة

عكف بعض المفكرين الاقتصاديين في المقابل على تحديث نظرية كينز وبناء النماذج النظرية التي تقبل وتفترض السلوك العقلاني للمشتركين في النشاط الاقتصادي، ولكن تؤكد في الوقت ذاته أن التصرف العقلاني يمكن أن يقود إلى انكماش اقتصادي لا يمكن التخلص منه بدون تدخل الدولة.  ومن أهم هذه النماذج:

  • نموذج "فشل التنسيق" (Coordination Failure) الذي يؤكد على أن التقلبات الاقتصادية قد تنشأ بسبب أن المشتركين في النشاط الاقتصادي يفشلوا في تنسيق خططهم مع بعضهم البعض. فعلى سبيل المثال، إذا كانت هناك منشأة اقتصادية تقوم بتسريح بعض عمالها لأن القائمين عليها يتوقعون حدوث انكماش اقتصادي يؤدي إلى تقليص حجم الطلب على منتوجاتها، فإن ذلك يقود إلى التقليص الفعلي في حجم الطلب العام وحدوث انكماش فعلي وفق الظاهرة المعروفة باسم "نبوءة ذاتية التحقيق". كذلك فإن انكماشاً اقتصادياً قد يحدث لأن الاقتصاد قد استقر على ما يسمى "توازن بقعة الشمس"، أي أن التوازن حصل بتأثير متغير عشوائي خارجي لا علاقة له بالمتغيرات الاقتصادية الرئيسية، ولكن بعض المشتركين في النشاط الاقتصادي يعتقدون بأهميته.
  • نموذج التباطؤ (Hysteresis) الذي يؤكد أن التغيرات في الطلب العام ليس لها تأثيرات في الأمد القصير ولكن في الأمد البعيد أيضاً. أي أن تأثيراتها لا تقتصر على معدل البطالة الحاضر ولكنها تتجاوزه إلى التأثير في معدل البطالة الطبيعي. وهناك نوعان من نماذج التباطؤ هذه؛ الأول هو "نموذج المدة" (Duration Model) والذي يبين أن الذين يفقدون عملهم لمدة طويلة يفقدون بعض رأسمالهم البشري مما يجعل عودتهم للعمل أمراً صعباً وهو ما يزيد من معدل البطالة الطبيعي. والنموذج الثاني من نماذج التباطؤ هو نموذج "الدواخل –الخوارج" (Insider-Outsider Model) الذي يبين أن الذين يحتفظون بأعمالهم، في أوقات الانكماش الاقتصادي، يحولوا دون انخفاض الأجور وبالتالي يتمكنوا من تعطيل آلية زيادة التشغيل عن طريق تخفيض الأجور.

يطلق على أصحاب هذه النماذج اسم تيار "الكينزية المحدثة" (Neo-Keynesian). وهناك تياران أخران هما تيار "الكينزية الجديدة"(New Keynesian) وتيار"ما بعد كينز" (Post Keynes). وكل هذه التيارات تشترك في الاعتقاد بأن هناك عوامل عدم استقرار في طبيعة النظام الرأسمالي وأن الدولة هي الطرف الوحيد الذي يملك القدرة على الحد من أضرار تلك العوامل.

وهكذا نرى أن نصف القرن الماضي قد شهد تواجد توجهان في علم الاقتصاد، واحد يرى أن أفضل وضع للنظام الرأسمالي هو الوضع الذي ترفع فيه الدولة يدها عن النشاط الاقتصادي والثاني الذي يرى أن تطور النظام الرأسمالي بدون أزمات يحتاج لدور نشيط وفعال من قبل الدولة. وفي العقود الثلاثة الأخيرة، وفي الأجواء اليمينية التي تكرست على اتساع العام في سياق أيديولوجية الليبرالية المحدثة كانت السيطرة شبه الكاملة للاتجاه الأول. وبسبب ذلك حدثت تغيرات كبيرة في مواقف أكثر دول العالم تجاه دور الدولة في معالجة مشاكل التقلبات الاقتصادية. وهذا ما سنتناوله في الفقرة التالية.

 

السياسات الاقتصادية في مناخ حقبة الليبرالية المحدثة

شملت حزمة السياسات الاقتصادية المعروفة باسم سياسات الليبرالية المحدثة، والتي ارتكزت على الأطروحات النظرية للمدرسة الكلاسيكية الجديدة، على ثلاثة عناصر رئيسية هي تحرير التجارة الخارجية عن طريق تخفيض الرسوم الجمركية، وتحرير أسواق المال من كل القيود والضوابط المنظمة لعملية إصدار وبيع الأصول المالية، وحصر هدف السياسات الاقتصادية للدولة في تحقيق هدف واحد هو تحقيق استقرار الأسعار. وفي نفس الوقت تم منح البنوك المركزية درجة عالية من الاستقلالية تمكنها من الامتناع عن تمويل عجز ميزانية الحكومة. وما يهمنا هنا بشكل خاص هو العنصر الأخير الذي له علاقة مباشرة بموضوع السياسات الاقتصادية الملائمة لمعالجة مشاكل التقلبات الاقتصادية.

قامت البنوك المركزية للدول التي تبنت حزمة سياسات الليبرالية المحدثة بإصدار تشريعات جديدة تم فيها تحديد وظيفة البنك المركزي وفق التوجه الجديد. وكانت نيوزيلندا هي أول دولة أصدرت في آذار 1989 تشريعاً ينص على استقلالية البنك المركزي ويؤكد على أن " الوظيفة الرئيسية للبنك المركزي هي تأمين استقرار المستوى العام للأسعار ". وفي عقد التسعينات صدرت مراسيم مشابهة في بريطانيا (1997) وفي اليابان (1997) ثم في الاتحاد الأوروبي (1999). وقد قامت بلدان أخرى كثيرة في أوروبا واسيا وأمريكا اللاتينية في إصدار تشريعات مماثلة، خصوصاً بعد أن أصبح موضوع استقلال البنك المركزي واقتصار وظيفته على تحقيق استقرار الأسعار جزءاً من حزمة السياسات التي تبناها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ووزارة الخزانة الأمريكية طوال عقد التسعينات وأصبحت تعرف باسم سياسات "إجماع واشنطن".

كان من نتيجة تبني الكثير من البنوك المركزية لهدف استقرار الأسعار كهدف رئيسي للسياسة النقدية نجاح كثير من البلدان في تخفيض معدل التضخم وتحقيق التوازن في ميزانية الحكومة وفي ميزان المدفوعات. ولكن تكلفة ذلك النجاح كانت مرتفعة جداً، وخصوصاً في البلدان النامية. وتبلورت تلك الكلفة في تقلص الإنتاج ومعدلات البطالة العالية. ولقد أرجع الكثير من الاقتصاديين أسباب ذلك الفشل إلى أن تلك الدول ركزت كل اهتمامها على هدف استقرار الأسعار مع أن ما هو مهم في آخر المطاف هو الاستقرار الحقيقي في الإنتاج والتشغيل الذي يؤدي إلى تحفيز الإستثمار وتحقيق النمو المستدام. وتبين من الدراسات الحديثة حول الموضوع أن هناك إشكاليتين في موضوع تبني البنك المركزي لهدف "استقرار الأسعار" كهدف رئيسي لسياسته النقدية.

 

الإشكالية الأولى هي أن تعبير "استقرار الأسعار" غير واضح وغير محدد. ليس هناك خلاف على ضرورة إتباع السياسات اللازمة لمحاربة ارتفاع الأسعار في مناخ التضخم المفرط (Hyperinflation)، نظراً لأن ذلك النوع من التضخم له تكلفة إقتصادية هائلة. إذ أنه يعمل على إيقاف النمو الاقتصادي وفي أحيان كثيرة يؤدي إلى الإنزلاق نحو الكساد. ولكن عندما يتعلق الوضع بمعدل تضخم معتدل أو معدل تضخم قليل فإن تكلفة التضخم تكون أقل بكثير. وليس هناك من دليل على أن ذلك النوع من التضخم يؤثر سلباً على النمو الإقتصادي. بل على العكس، هناك دلائل كثيرة على أن اتباع سياسات نقدية انكماشية لتخفيض معدل ذلك النوع من التضخم يقود في أغلب الأحيان إلى تكلفة اقتصادية (تراجع في النمو وزيادة في البطالة) تزيد عن تكلفة التضخم ذاته.

يعرض الجدول (1) تجارب عدة بلدان مرت في نصف القرن الماضي بفترات من التضخم المفرط وفترات من التضخم المعتدل وفترات من التضخم الضئيل. ويظهر في الجدول أن فترات التضخم المفرط تصاحبت مع معدلات نمو متدنية لا بل وأحياناً سالبة (ما عدا إسرائيل في فترة 1979-1985). ويظهر أيضاً أن فترات التضخم المعتدل تصاحبت في أحيان كثيرة مع معدلات نمو عالية (البرازيل في فترة 1965-1980، وتشيلي في فترة 1986-1996، وتركيا في فترة 2002-2003).

باختصار إذن، هناك خلاف بين الاقتصاديين حول معنى "استقرار الأسعار" إذ أنه من الممكن اعتبار الكثير من أوضاع التضخم المعتدل على أنها أوضاع "أسعار مستقرة" ما دام المشتركين في النشاط الاقتصادي يتعاملون مع تلك الأسعار كمؤشرات موثوقة يعتمد عليها في اتخاذ قرارات الاستثمار والاستهلاك. 

 

الجدول (1) العلاقة بين التضخم والنمو في بعض البلدان (1965-2004)

تضخم كبير

تضخم معتدل

تضخم قليل

 

نمو

تضخم

نمو

تضخم

نمو

تضخم

البلد والسنة

البرازيل

 

 

7.9

36.2

 

 

1965-1980

2.2

150.4

 

 

 

 

1981-1986

2.0

1187.8

 

 

 

 

1987-1995

 

 

 

 

1.7

8.5

1996-2003

تشيلي

 

 

4.6

25.7

 

 

1965-1971

(0.6)

269.9

 

 

 

 

1972-1977

 

 

3.5

26.9

 

 

1978-1985

 

 

7.4

18.9

 

 

1986-1994

 

 

 

 

4.5

4.8

1995-2003

إسرائيل

 

 

 

 

8.0

4.7

1965-1970

 

 

5.5

30.3

 

 

1971-1978

4.0

181.5

 

 

 

 

1979-1985

 

 

5.4

17.9

 

 

1986-1996

 

 

 

 

2.2

3.8

1997-2003

تركيا

 

 

 

 

4.7

5.4

1968-1970

 

 

6.1

17.5

 

 

1971-1977

(0.5)

71.4

 

 

 

 

1978-1980

 

 

5.8

37.9

 

 

1981-1987

2.8

72.8

 

 

 

 

1988-2001

 

 

6.9

35.1

 

 

2002-2003

Source: Shari Spiegel (2007): Macroeconomic and Growth Policies. UNITED NATIONS, Department for Economic and social affairs (UNDESA).

 

الإشكالية الثانية تتبدى في أن البنك المركزي لا يستطيع الاستمرار بتحقيق هدف استقرار الأسعار، حتى عندما يتبنى البنك تعريفاً محدداً لذلك الهدف. وهذا ما أثبتته تجارب كل البنوك المركزية التي تبنت الهدف منذ مطلع الثمانينات من القرن الماضي. ففي دراسة مشهورة قام بها بينيامين برناركي (قبل أن يصبح حاكم البنك المركزي الأمريكي)، أظهر فيها أن كل البنوك المركزية التي تبنت هدف استقرار الأسعار كهدف رئيسي للسياسة النقدية، بدون أي استثناء، إنما فعلت ذلك في الأمد المتوسط والأمد الطويل، بينما ظلت تمارس استعمال أدوات السياسة النقدية من أجل تحقيق أهداف أخرى على الأمد القصير، وخصوصاً تلك التي تتعلق باستقرار سعر الصرف وهدف تحقيق معدل مقبول من النمو، وهدف استقرار السوق المالي.[4] كما أن كل تلك البنوك المركزية، لم تتمكن من النجاح بتحقيق هدف استقرار الأسعار على الأمد البعيد. وهذا ما حصل مع البنك المركزي الكندي الذي تخلى عن الهدف في فترة الانكماش الاقتصادي في مطلع الثمانينات عندما زاد معدل البطالة عن 10%. وهو أيضاً ما حصل مع البنك المركزي البريطاني في مطلع التسعينات أثناء أزمة الإسترليني. وهو أيضاً ما حصل بعد ذلك في عام 2008-2009 مع كل البنوك المركزية في أمريكا وأوروبا وبعض البلدان النامية أثناء استفحال الأزمة المالية العالمية.

الخلاصة

من هاتين الإشكاليتين يتضح لنا أن تبني البنك المركزي في أي بلد لهدف "استقرار الأسعار" هو تبني لمفهوم غير محدد وغير ممكن. إن الهدفين اللذين يتوجب على السياسات الاقتصادية الكلية، بما فيها السياسة النقدية، تحقيقهما هما: النمو الحقيقي وعدالة التوزيع. أما الأهداف الإسمية مثل استقرار الأسعار وميزان المدفوعات وسعر الصرف، فهي أهداف ثانوية ليس لها قيمة بحد ذاتها وإنما تكتسب قيمتها من كونها مؤشرات عن أحوال الأهداف الحقيقية. ولقد عبر عن هذا التوجه تقرير منظمة الأونكتاد لعام 2010 بالقول: "إن السياسة النقدية المكرسة بشكل دائم لمحاربة التضخم تضر بهدف خلق فرص عمل جديدة وتحقيق نمو مستدام. ولهذا فإن حزمة السياسات التي تم تقديمها في العقود الثلاثة الماضية للبلدان النامية على أنها السياسات الوحيدة المناسبة، وتعرف باسم "إجماع واشنطن"، هي سياسات يجب تغييرها واستبدالها بسياسات تضع الأولوية على محاربة البطالة عن العمل"

وليس هناك منطقة في العالم تحتاج إلى انتهاج سياسات اقتصادية كلية جديدة أكثر من المنطقة العربية. فلقد قادتها حزمة سياسات الليبرالية المحدثة إلى أن تكون المنطقة التي تعاني من أعلى معدل بطالة عن العمل في العالم كما هو واضح في الجدول (2).

 

الجدول (2) معدل البطالة عن العمل في مناطق العالم المختلفة

2009

2007

2002

1990

1980

المنطقة

9.1

4.8

6.0

5.9

7.2

أمريكا الشمالية

8.8

6.9

7.5

9.7

5.8

أوروبا

3.4

2.9

2.6

2.5

4.9

شرق آسيا

9.8

9.1

10.3

10.4

6.1

جنوب آسيا

5.7

6.6

7.7

3.8

2.9

جنوب شرق آسيا

12.0

9.6

11.1

9.0

9.0

غرب آسيا

9.7

9.8

13.5

11.1

8.7

شمال أفريقيا

8.3

7.9

8.4

7.9

7.3

الصحراء الأفريقية

8.3

7.9

11.1

5.8

6.2

أميركا اللاتيتية

المصدر: هذه الأرقام مأخوذة من تقرير التجارة والتنمية 2010 لمنظمة الأونكتاد.

(نشرت في المراقب الإقتصادي، العدد 22، 2009)