النمو الاقتصادي- العلاقة بين النمو وتوزيع الدخل

النمو الاقتصادي- العلاقة بين النمو وتوزيع الدخل

The Relationship between Growth and Income Distribution

 

خلصنا في السابق عن مصادر النمو الى أن النمو يحصل إما جراء ازدياد عوامل الإنتاج وخصوصاً الرأسمال المادي والرأسمال البشري، أو جراء تزايد إنتاجية عوامل الإنتاج التي تأتي من التقدم التقني أو من زيادة كفاءة مؤسسات الإنتاج. ومن الطبيعي أن نتعامل بعد هذا مع السؤال الهام حول البيئة الاقتصادية التي تساعد على تشجيع تراكم رأس المال المادي، وتحفيز الاستثمار في رأس المال البشري، وتهيئة الظروف المناسبة لتسريع عملية التقدم التقني، وتعزيز مقومات الكفاءة في الإنتاج. ما هي مقومات تلك البيئة؟ وما الذي يأتي من تلك المقومات كنتيجة تلقائية لعمليات آليات السوق الحرة، وما هي المقومات الأخرى التي يحتاج تكوينها إلى سياسات اقتصادية تتبناها الدولة؟

نتناول في هذا الجزء واحداً من أهم القضايا التي تلعب دوراً أساسياً في الإجابة على تلك الأسئلة، وهو موضوع العلاقة بين توزيع الدخل القومي وبين النمو الاقتصادي. والسؤال المركزي في هذا الموضوع هو: هل هناك ضرورة لتدخل الدولة والى وتطبيق سياسات "إعادة توزيع الدخل" التي تهدف إلى تغيير توزيع الدخل الذي تم وفق آليات السوق الحرة، وتكريس توزيع آخر للدخل يكون أكثر ملاءمة لمتطلبات دعم عملية النمو وتسريعها؟

ستتم مناقشة الجوانب المختلفة لهذا السؤال من خلال ثلاث فقرات. تتناول الفقرة الأولى تلخيصاً سريعاً للأفق النظري لعلاقة النمو الاقتصادي مع توزيع الدخل القومي، ودور سياسات إعادة التوزيع، في سياق معايير “الفعالية" (efficiency) و"المساواة" (equity). في حين تعرض الفقرة الثانية وجهة النظر القديمة حول الموضوع والتي كانت ترى أنه يجب الفصل التام بين عملية النمو وعملية إعادة توزيع الدخل على أساس أن الأولى تخص حيز "الفعالية" بينما تخص الثانية حيز "المساواة." أما الفقرة الثالثة والأخيرة، فتعرض وجهة النظر الحديثة حول الموضوع والتي ترى أن إعادة توزيع الدخل، وخصوصاً في البلاد الفقيرة النامية، هي عملية مهمة جداً في حيز "الفعالية" إلى جانب أهميتها في حيز "المساواة".

 

الأفق النظري للعلاقة بين النمو والتوزيع

من الطبيعي أن تكون هناك علاقة عضوية بين عملية النمو الاقتصادي وعملية توزيع الدخل القومي. ففي الوقت الذي يبدأ فيه اقتصاد بلد ما بالنمو يكون بين مواطني ذلك البلد توزيع معين للثروة وللدخل، وبما أن النمو عملية ديناميكية تؤثر على الصناعات المختلفة بشكل مختلف، حيث تتوسع بعض الصناعات أكثر من بعضها الآخر، كما أن صناعات جديدة تنشأ وصناعات قديمة تختفي، فهذا يعني أن توزيع الدخل لا يبقى على حاله مع عملية النمو بل يتغير. وإذا كانت عملية الإنتاج تتم وفق معايير "الفعالية" الاقتصادية فذلك يعني أن النمو الذي حصل وما صاحبه من تغيير في توزيع الدخل يؤدي إلى وضع أمثل (optimal). ولكن الوضع الأمثل وفق معايير "الفعالية" ليس بالضرورة وضع أمثل وفق معايير "المساواة". فليس من العدالة أن يظل المواطنون الذين خسروا كل دخلهم أو جزءاً منه جراء عملية النمو بدون مساعدة تضمن لهم مستوى مقبول من المعيشة يؤهلهم لاكتساب خبرات جديدة تؤمن لهم دخلاً مناسباً في المستقبل. ومن هذا المنظور يتضح مبرر تدخل الدولة في تطبيق سياسات إعادة توزيع الدخل التي تعني في هذا المجال اقتطاع جزء من دخل الذين استفادوا من عملية النمو وتوزيعه على الذين تضرروا منها. والمهم في الموضوع هو الفصل الكامل بين العمليتين، أي أن تتم عملية النمو وفق آليات السوق وبدون تدخل من الدولة، وبعد ذلك تتم عملية إعادة التوزيع دون أن تحدث تشويهاً في الفعالية الاقتصادية. ولضمان تحقق ذلك يجب أنّ لا تؤثر عملية إعادة التوزيع على الأسعار النسبية في الأسواق (أي على معدل الفائدة، معدل الأجور، معدل أسعار السلع والخدمات). 

وعلى الصعيد النظري، هناك جانب آخر للعلاقة بين النمو وتوزيع الدخل غالباً ما يتم تجاهله. يتمثل هذا في أن النمو يقود مع مرور الزمن، في أي اقتصاد تتم فيه عملية الإنتاج وفق معايير الفعالية الاقتصادية، إلى تقليص اللامساواة على المدى الطويل في توزيع الدخل لا إلى ازديادها. أي أنه من المتوقع بعد مرور الوقت الكافي أن يقود النمو إلى تضييق الفجوة بين دخل الفقراء وبين دخل الأغنياء. وإذا حدث العكس، فإن ذلك دليل على أن الاقتصاد يعاني من تشوهات وأن الإنتاج لا يتم وفق معايير الفعالية. وسبب ذلك بسيط ويعود إلى جوهر معنى عمل آليات السوق. وعلى سبيل المثال، إذا تسبب النمو في زيادة الطلب على مهنة ما، وهو ما يؤدي إلى رفع مستوى الأجر الذي يتلقاه الذين يزاولوها، فإن ذلك يشجع الكثير من الناس على الاستثمار في رأس المال البشري الذي يؤهلهم للعمل في تلك المهنة، وينجم عن ذلك بالطبع زيادة عدد العاملين فيها وبالتالي انخفاض دخلها العالي. من ناحية أخرى، إذا تسبب النمو في زيادة الطلب على سلعة ما، فإن ارتفاع سعرها وبالتالي ارتفاع معدل أرباح منتجيها يقود إلى إقبال أصحاب الأموال على الاستثمار في الصناعة التي تنتج تلك السلعة، مما يزيد في حجم إنتاج السلعة وبالتالي تخفيض سعرها وتقليص نسبة أرباحها العالية. وهذا يعني أن الأداء الطبيعي لعمل آليات السوق يقود مع مرور الوقت إلى تخفيف درجة عدم المساواة في الدخل. أما عندما يحدث العكس، وتزداد درجة اللامساواة في الدخل، فهذا يعني أن الأسعار لا تقوم بدورها في توزيع الموارد على الصناعات المختلفة بكفاءة. ويتأتى ذلك عادة نتيجة وجود منشآت احتكارية قوية قادرة على الحد من حركة العمال ورأس المال في مناخ تنافسي حر، أو وجود شريحة كبيرة من العمال لا تستطيع الاستثمار في رأس المال البشري الضروري لاكتساب الخبرات التي يتطلبها السوق. وفي مثل هذه الحالات، يصبح تدخل الدولة لتغيير تلك الأوضاع عن طريق إعادة توزيع الدخل أحد الوسائل المشروعة لتكريس معايير الفعالية في الإنتاج والتوزيع.

 

النمو أولاً ثم إعادة التوزيع (منحنى كزنيتس)

رأينا في الفقرة السابقة أنه على مستوى الاقتصاد الجزئي، وفي أوضاع تتم فيها عمليتي الإنتاج والتوزيع بواسطة آليات السوق وفق معايير الفعالية، هناك فصل كامل بين عملية النمو وبين عملية إعادة التوزيع. حيث تتم الأولى في حيز الاقتصاد، وتتم الثانية بعد ذلك في حيز السياسة الاقتصادية. ولهذا، شاعت في الأدبيات الاقتصادية مقولة "النمو أولاً ثم إعادة التوزيع".

ولقد وجدت تلك المقولة تعبيرها على مستوى الاقتصاد الكلي في منتصف عقد الخمسينات من القرن الماضي في الفرضية المعروفة باسم فرضية كزنيتس (Kuznets Hypothesis). ترى الفرضية ضرورة عدم الاهتمام بتوزيع الدخل القومي في مراحل النمو الأولى على أساس أن من طبيعة تلك المراحل حدوث ارتفاع في درجة اللامساواة في الدخل نتيجة زيادة الأرباح بأسرع من الأجور. على أن ذلك لا يستمر مدة طويلة نظراً لأن العكس يحدث في المراحل اللاحقة للنمو حيث تزداد المساواة. وسميت هذه العلاقة بفرضية كزنيتس نسبة إلى الاقتصادي المعروف سيمون كزنيتس (1901-1985) الذي كان أول من لاحظ تلك العلاقة من خلال تحليله لبيانات السلاسل الزمنية لمتوسط دخل الفرد في الولايات المتحدة ودرجة عدم المساواة في ذلك الدخل.

من الواضح أنه من الممكن إيجاد التفسير الاقتصادي لفرضية كزنتس من ملاحظة الفرق بين عمل آليات السوق في الأمد القصير وعملها على المدى البعيد الذي تحدثنا عنه في الفقرة السابقة. لكن أكثر الاقتصاديين الذين قاموا بأبحاث تخص هذه الفرضية، ركزوا على ارضية أن وجود درجة عالية من عدم المساواة في الدخل أمر ضروري لبدء عملية النمو، وذلك على أساس أن النمو في مراحله الأولى يعتمد بشكل رئيسي على الاستثمار في رأس المال المادي. وبما أن الأغنياء هم الذين يملكون المدخرات والقادرين على تحويلها إلى استثمارات، فهذا يعني أنه كلما ازدادت حصتهم من الدخل، ازدادت كمية المدخرات المتاحة لتمويل الاستثمار وتعزيز عملية النمو.

أظهرت تجارب النمو في البلدان المختلفة في نصف القرن الماضي أن فرضية كزنيتس قد تنطبق على تجارب النمو في الولايات المتحدة وبعض بلدان أوروبا الغربية في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، إلا أنها لا تنطبق على تجارب النمو لهذه البلدان في النصف الثاني من القرن العشرين، وهي بالتأكيد لا تصف تجارب النمو في بلدان أميركا اللاتينية وبلدان شرق آسيا والبلدان العربية.

ففي الولايات المتحدة، ووفق أرقام دائرة تعداد السكان، حدث ارتفاع كبير في درجة اللامساواة في الدخل بين العام 1967 والعام 2005، وهي فترة نمو اقتصادي هائل في بلد صناعي غني كان قد مر في المراحل الأولى من النمو الاقتصادي قبل أكثر من قرن (أنظر جدول 1). وحدث ذلك أيضاً في اليابان وبعض بلدان أوروبا الغربية، إذ ازدادت درجة اللامساواة في الدخل في الربع الأخير من القرن الماضي. من ناحية أخرى، فإننا نجد أن النمو الاقتصادي في مراحله الأولى في بعض بلدان أميركا اللاتينية، كالبرازيل مثلاً، قد نجح في رفع متوسط دخل الفرد بشكل ملحوظ دون أن يؤدي ذلك إلى تراجع في درجة اللامساواة في الدخل. وفي المقابل، فإننا نجد أن بلدان النمور الآسيوية قد حققت المراحل الأولى من النمو مع تناقص ملحوظ في درجة اللامساواة في الدخل، بينما أخذت اللامساواة بالازدياد في السنوات الأخيرة مع دخول تلك البلاد المراحل المتقدمة من النمو. من الواضح أن كل تلك التجارب لا تتطابق مع فرضية كزنيتس.

أما تجارب النمو في البلدان العربية فلقد تناقضت مع فرضية كزنيتس بشكل مختلف. ففي الخمسينات والستينات والسبعينيات من القرن الماضي، مر العالم العربي بفترة نمو كبيرة صاحبها تحسن واضح في عدالة توزيع الدخل القومي، حيث تراجعت درجة اللامساواة بشكل ملحوظ. كما صاحب تراجع النمو الذي شهده العالم العربي في الثمانينيات والتسعينيات تزايد في درجة اللامساواة في الدخل (أنظر جدول 1، وجدول 2).

يمكن الإستنتاج إذن من كل هذه التجارب المختلفة أن فرضية كزنيتس ليست نظرية اقتصادية، ولكنها مجرد علاقة إحصائية كانت صحيحة في فترة زمنية محددة بالنسبة لبعض البلدان، وهي بالتأكيد غير صحيحة بالنسبة لكل البلدان وكل الأزمنة. وبناءً على ذلك، كان من الطبيعي إعادة النظر بمقولة "النمو أولاً ثم إعادة التوزيع".

 

جدول 1: معامل جيني في بعض البلدان المختارة (1963-2002)

2002

1990

1980

1970

1963

الدولة

50.08

43.72

39.46

39.78

43.18

مصر

46.54 *

39.10

46.31

42.11

49.00

سوريا

46.20

46.10

45.11

46.34

47.73

الأردن

54.76 **

58.69

49.39

51.30

49.07

الكويت

37.75

35.89

38.18

42.87

41.76

كوريا

39.25

36.39

38.11

46.33

43.48

سنغافورة

33.10

28.65

28.92

29.99

 

تايوان

46.30

42.80

40.30

39.40

39.70 ***

الولايات المتحدة الأمريكية

المصدر: مركز جامعة تكساس لدراسات عدم المساواة. أما الأرقام الخاصة بالولايات المتحدة الأمريكية، فمصدرها مركز إحصاء السكان الأمريكي: .www.utip.gov.utexas.edu

* معامل جيني للعام 1998 ** 2001   *** 1967.

 

 

جدول2: معدل النمو الحقيقي لمتوسط دخل الفرد (1981-2007)

عدد مرات تضاعف الدخل خلال 1981-2007

1990-2002*

1981-1989*

المنطقة

41.4

1.2

1.4

العالم

67.5

1.8

2.5

البلدان الغنية

112.5

3.0

1.7

البلدان النامية

317.5

5.3

5.1

بلدان شرق وجنوب آسيا

16.0

1.1

1.7 -

غرب أسيا**

المصدر: الأونكتاد، تقرير التجارة والتنمية (Trade and Development Report)، 2007، ص3.

*           النسبة المئوية للنمو في السنة بالأسعار الحقيقية (سنة الأساس هي 2000)

** تشمل: سوريا، لبنان، فلسطين، الأردن، العراق، الكويت، السعودية، الإمارات، قطر، البحرين، عُمان، اليمن، قبرص، إيران، وتركيا.

 

النمو مع إعادة التوزيع

من أهم تجارب النمو التي حصلت في نصف القرن الماضي هي تجربة النمور الأربعة (كوريا الجنوبية، تايوان، سنغافورة، وهونغ كونغ). وقد عكفت المؤسسات الأكاديمية والمنظمات الدولية المهتمة بقضايا النمو في العالم الثالث على دراسة تلك التجربة، وعقد المقارنة بينها وبين تجارب مناطق أخرى لم تحقق ما تم إنجازه في التجربة الآسيوية. وعلى سبيل المثال، أظهرت المقارنة بين التجربة الآسيوية وتجربة بلدان أميركا اللاتينية أن الدرجة العالية من اللامساواة في الدخل تشكل عائقاً للنمو، وأن سياسات إعادة توزيع الدخل مهمة جداً في المراحل الأولى من النمو، ليس من أجل تحقيق العدالة بين المواطنين (بالرغم من أهمية ذلك)، ولكن من أجل تحقيق الفعالية في الأسواق.

عندما نقارن تجربة بلدان شرق آسيا بتجربة بلدان أميركا اللاتينية في العقود الثلاثة الماضية، نجد أن الأولى تتصف بمعدل نمو مرتفع ودرجة اللامساواة في الدخل منخفضة، وفي المقابل نجد أن الثانية تتصف بمعدل نمو منخفض ودرجة عالية من اللامساواة في الدخل. وعندما نعود إلى واقع الاقتصاد السياسي في كلا التجربتين، نجد اختلافاً كبيراً في دور إعادة توزيع الدخل بينهما. ففي التجربة الآسيوية، أدركت النخب الحاكمة منذ خمسينات القرن الماضي أن شرعيتها مهددة من الحركات الشيوعية الثورية، فعملت على توسيع قاعدة التأييد الشعبي لها عبر تطبيق سياسات إعادة توزيع الدخل، كالإصلاح الزراعي، والمساكن الشعبية، والاستثمار في البنية التحتية في المناطق الريفية، ومجانية التعليم بنوعية عالية. أما النخب الحاكمة في أمريكا اللاتينية، فكان اهتمامها منصب بالدرجة الأولى على المصالح الضيقة والآنية للفئات التي تمثلها، ولذلك نجد أن معظم سياساتها الاقتصادية لم تحدث أي تغيير مهم في مستوى معيشة الغالبية الفقيرة من السكان. وإذا قارنا بين بلدين مثل كوريا الجنوبية والمكسيك، فإننا نجد أن متوسط دخل الفرد في المكسيك في العام 1960 كان أكثر من ضعف متوسط دخل الفرد في كوريا لنفس العام، وأن درجة عدم المساواة في المكسيك كانت أقل منها في كوريا. أما الآن فقد انقلبت الصورة تماماً، ففي عام 2008 أصبح متوسط دخل الفرد في كوريا أكثر من ضعف نظيره في المكسيك، كما أن درجة اللامساواة في الدخل تناقصت في كوريا بينما ارتفعت في المكسيك (انظر جدول 3).

جدول 3: الدخل الفردي ومعامل جيني في كوريا والمكسيك

 

المكسيك

كوريا الجنوبية

- متوسط دخل الفرد 1960 (دولار)

660

260

- معامل جيني 1960

40.73

41.76

- متوسط دخل الفرد 2008 (دولار)

9,980

21,530

- معامل جيني 2008

43.83

37.74

أرقام معامل جيني مأخوذة من مركز جامعة تكساس لدراسات اللامساواة، أما أرقام الدخل مأخوذة من World Development Indicators.

النمو المحابي للفقراء

أصدر البنك الدولي دراسات هامة تبين أن سوء توزيع الدخل في البلاد الفقيرة ناجم عن وجود عوائق تمنع الفقراء من الاشتراك في العملية الاقتصادية، وذلك بحكم عدم قدرتهم على الاستجابة للمتغيرات التي تحدث في الأسواق فهم غير قادرين على تمويل الاستثمار في مشاريع جديدة، أو الإنفاق على تعلم واكتساب خبرات جديدة. ولقد وجدت تلك الدراسات أن أحد أسباب نجاح بلدان شرق آسيا في تحقيق عملية النمو المستدام يعود على نجاح الحكومات في إزالة العقبات التي تمنع آليات السوق من العمل، أي إزالة العقبات التي تمنع الفقراء من الاشتراك في العملية الإنتاجية، وذلك عبر إتباع إستراتيجية "النمو المحابي للفقراء" (pro-poor growth). التي تتلخص بقيام الدولة بخلق البيئة الاقتصادية التي تساعد الفقراء على الانخراط في العملية الاقتصادية والمشاركة في عملية النمو منذ البداية. وترتكز إستراتيجية "النمو لصالح الفقراء" على تمكين الفقراء من الحصول على الخدمات التعليمية والصحية بتكلفة تتناسب مع إمكانياتهم، وتوفير تمويل للمشاريع الصغيرة، وتشييد البنى التحتية في المناطق التي يسكنون فيها.

لماذا تؤدي اللامساواة الى تقييد النمو؟

أظهرت الكثير من الدراسات التطبيقية التي فحصت العلاقة بين النمو وبين توزيع الدخل في البلدان المختلفة، وجود علاقة عكسية بين درجة اللامساواة في الدخل ومعدل النمو. وترمي إستراتيجية "النمو المحابي للفقراء" في الدرجة الأولى الى تطبيق سياسات لإعادة توزيع الدخل، لأن وجود درجة عالية من اللامساواة في البلاد الفقيرة تؤدي إلى تقييد وعرقلة عملية النمو. وفيما يلي نعرض بشكل سريع كيف تكرس اللامساواة العالية بيئة غير ملائمة وغير محفزة للنمو.

  • رأس المال المادي. أظهرت الدراسات الحديثة عن سلوك المستهلكين والمدخرين في المجتمعات الفقيرة، أن النسبة الحدية لادخار أفراد الطبقة الوسطى تفوق ما هي عليه عند أفراد الطبقة الغنية أو الطبقة الفقيرة. وقد فسر بعض الاقتصاديين هذه الظاهرة بملاحظة أن الدخل، على عكس ما هو معروف في النظرية التقليدية، ليس هو المحدد الوحيد لسلوك الادخار. إذ يلعب عامل "الطموح" الشخصي دوراً هاماً في تحديد سلوك ادخار الأفراد. من ناحية أخرى، فإن درجة عدم المساواة في الدخل والثروة تلعب دوراً في الحد من "طموح" الأفراد. فالفقراء في المجتمعات الفقيرة، ليس عندهم أمل أو طموح لتغيير وضعهم، إذ أنهم يعيشون وكأنهم في فخ أو مصيدة (poverty trap). وهذا يعني أن وجود درجة عالية من عدم المساواة في الدخل يشكل عائقاً أمام الادخار والاستثمار وتراكم رأس المال المادي، وهدف سياسات إعادة توزيع الدخل هي تمكين الفقراء من الحياة بسلوكية جديدة مبنية على أساس أمل للفكاك من "مصيدة الفقر".
  • رأس المال البشري. الاستثمار في رأس المال البشري، أي الإنفاق على التعليم والصحة، يستحق الأولوية على الإنفاق على الاستثمار في رأس المال المادي أو الإنفاق على السلع والخدمات الكمالية. وعلى هذا الأساس، فإن أية عملية لإعادة توزيع الدخل تقوم على الاقتطاع من دخل الأغنياء وزيادة دخل الفقراء تؤدي إلى زيادة إنفاق الفقراء على الاستثمار في رأس المال البشري دون أن تؤدي إلى تقليص في إنفاق الأغنياء على ذلك الاستثمار. وهذا يعني بالضرورة، زيادة تراكم رأس المال البشري في المجتمع.
  • التقدم التقني. في المجتمعات التي تكون فيها درجة عدم المساواة في الدخل عالية، يبقى التعليم فيها مقتصراً على أفراد الأقلية الغنية، ويندر فيها وجود العمال المهرة، وتكون الفروق كبيرة بين أجر العامل الماهر والمتوسط العام للأجر. ويدعى هذا بـ “علاوة المهارة" (skill premium). وتزداد هذه العلاوة مع نقل أو ابتكار تقنية جديدة، ما يجعل عملية نقل وابتكار التقنيات الحديثة عملية بالغة التكاليف، ولذلك فهي تتم ببطء شديد في مثل تلك المجتمعات.
  • الفعالية. يقترن وجود درجة عالية من عدم المساواة في الدخل في المجتمعات الفقيرة مع وجود فئات قوية وذات نفوذ تحقق مصالحها عن طريق تقليص وظيفة السوق في الإنتاج والتوزيع بشكل كفء، فتمارس الاحتكار في الإنتاج وفي الاستيراد كما تشجع النشاط الريعي (Rent seeking) وتضعف الوضع المؤسسي لحقوق الملكية (property rights). وكل ذلك يقود إلى تكريس مناخ من الفساد وعدم الشفافية مما يؤدي بالضرورة إلى زيادة درجة عدم اليقين في الأسواق، مما يؤدي إلى تفشي اللافعالية في الإنتاج. وهو مايقود إلى تقليص الاستثمار وتباطؤ النمو.