المقومات الاقتصادية لدولة فلسطين مستقلة
عندما قررنا في "ماس" أنه من الضروري نشر هذه الدراسة النادرة للبروفيسور يوسف صايغ، العائدة للعام 1990 ، دون تعديل أو تحرير أو تدخل في نصوص المؤلف، وطباعتها للمرة الأولى في كتاب، تساءل أحد الزملاء حول جدوى ذلك، أو صواب نشر نص لمؤلف راحل، في مرحلة تاريخية تختلف فيها الأرقام والوقائع الاقتصادية والسياسية بشكل كبير، ما يجعل من الصعوبة قراءة نص الصايغ في ظروف اليوم المأساوية. برأينا، يستحق عمل علمي ضخم مثل هذه الدراسة التي تبلور أول تصور فلسطيني رفيع المستوى لاقتصاد دولة فلسطينية مستقلة في الأراضي 1967 ، تحت السيادة الفلسطينية غير المشروطة، أكثر من مجرد الاكتفاء بطباعته كما صيغ قبل ثلاثة عقود، ليعرف به الناس.
لا يحتاج مفكر كيوسف صايغ لمن يقدم أعماله، خاصة وأنه يفعل ذلك بكل جدارة ووضوح في مقدمة الدراسة، مفسرا السياق والمنهجية والدوافع والأهداف من البحث. بالتالي، فضلنا تفادي محاولة تفسير ، أو توضيح، أو تبرير، هذه النقطة أو تلك. لكن، لا بد من تمهيد ما لجمهور القرن ال 21 لتوضيح سياق إعداد الدراسة، ولإبراز مكامن قوة هذا العمل الذي لم يطّلع عليه حتى الآن سوى عدد محدود من الخبراء، وكيف يجسد هذا الكتاب بشكل مكثف وجديد في حينه، كل ما هو معروف سابقا عن عظمة فكر يوسف صايغ من مؤلفاته وإسهاماته الوفيرة في التنمية الفلسطينية والعربية.
لذا، سأكتفي هنا بذكر بعض النقاط التي تميز هذه الدراسة عن غيرها من الدراسات التاريخية حول الاقتصاد الفلسطيني، ويجعلها بحثا مرجعيا حول تاريخ الفكر الاقتصادي الفلسطيني، لعل ذلك يساعد القارئ على المطالعة حتى النهاية وتقدير هذا الجهد.
أولاً، نذكر أن هذه الدراسة هي نتاج جهد فلسطيني خالص، في مرحلة حرجة من تطور حركة التحرر الوطني، أي في أعقاب إعلان استقلال دولة فلسطين العام 1988 وفي ذروة الانتفاضة الأولى واجتياحها للمخيلة الفلسطينية حول ما قد يكون ممكنا تحقيقه من الأهداف الوطنية. أي، أنها تنطلق من تلك المرحلة وتعكس كل ما انطوت عليه من تفاؤل بعدالة وحتمية وقرب إقامة الدولة المستقلة على أراضي فلسطين المحتلة العام 1967 تعكس الدراسة ( وأيضا قرار منظمة التحرير بتكليف أهم اقتصادي فلسطيني في ذاك الوقت بإعدادها ) جدية القيادة الفلسطينية في تلك المرحلة، قبل حرب الخليج وقبل مدريد وقبل انهيار الانتفاضة، وقبل أوسلو وإفرازتها الاقتصادية التي جاءت مناقضة لافتراضات وتصورات وتوصيات الصايغ. إذا، توفر هذه الدراسة نافذة فريدة من نوعها لفهم تطور العقيدة الاقتصادية الفلسطينية تاريخيا.
كذلك، تمثل الافتراضات السياسية المعتمدة، بناء على برنامج م. ت. ف. السياسي، صورة دقيقة للمواقف الفلسطينية الرسمية الملتزمة بالتسوية السلمية وحل الدولتين، وأيضا التوقعات لإنجازات سياسية ربما كان معقولا تصورها من تونس عشية حرب الخليج، لكنها تبددت لاحقا. بالتالي، تضمنت الافتراضات السياسية التي استندت لها الدراسة لتخطيط شكل الاقتصاد الوطني الفلسطيني، افتراضا بالتوصل لحل سلمي يبدأ تنفيذه في 1992 مع مرحلة انتقالية ت نتهي في خمس سنوات بإقامة الدولة المستقلة وبسط سيادتها، وإخلاء المستوطنات، وعودة 250 ألف لاجئ أو أكثر، ومساعدات واستثمارات دولية ب 12 مليار دولار، خلال الفترة. لا نملك إلا التواضع أمام ما أنجزه يوسف صايغ في أقل من سنة، بين بيروت وتونس، في تحليله( في الفصل الأول ) لمفهوم "القابلية للحياة" لأية دولة وبالذات لدولة ناشئة مثل فلسطين، ثم (في الفصل الثاني) استعراض مفصل (جداً!) لما ابتدع تسميته ب "المقومات" الضرورية لنمو واستدامة تنمية هذا الاقتصاد، من بشرية وطبيعية وإنتاجية و رأسمالية، قبل إجراء تحليل مقارن (الفصل الثالث والختامي) لواقع الاقتصاد الفلسطيني عشية المرحلة الانتقالية المفترضة، مع الإطار النظري والبحثي لتقييمه السابق للمقومات، ناهيك عن لغته العربية الرصينة والمبتدعة في ترجمته الخاصة لعدد من المصطلحات الاقتصادية باللغة الإنجليزية التي لم يكن لها مرادفات مستخدمة في العربية.
من جهة أخرى، نجد في هذا الكتاب أصداء الرحلة الفكرية للصايغ منذ تأسيسه كاقتصادي تنموي درس الاقتصاديات العربية والريادة كمفهوم وظاهرة، مرورا بما كتبه عن التنمية العربية، وصولا إلى تركيزه على تنمية اقتصاد بلاده. تعكس هذه الدراسة العبر التي استخلصها من هذه المراحل في حياته العلمية والسياسية، ومراجعته واستيعابه ما يقارب 100 مرجع بحثي وإحصائي وعلمي. لم يترك صايغ نظرية إلا وفحص جدواها هنا، ولم يفته رقم أو جدول إحصائي حول الاقتصاد ما قبل التسعينيات، ولم ينس أن يمتحن بعض افتراضاته الاقتصادية بمعادلات رياضية ونمذجة.
أخيرا وليس أخرا، يجب التذكير بأن يوسف صايغ معروف لإشرافه (أيضا لصالح دائرة الشؤون الاقتصادية) على إعداد عشرات من الخبراء الفلسطينيين "البرنامج العام لإنماء الاقتصاد الوطني 1994 "، الأضخم والأوسع والأعمق من هذه الدراسة التي مهدت تماما وبررت إعداد - الفلسطيني 1999 البرنامج العام اعتبارا من 1990 . من الملفت أن هذه الدراسة التأسيسية للبرنامج الإنمائي عرضت، بحسب مذكرات صايغ ( التي أعدتها زوجته العالمة روزماري صايغ )، على مؤتمر في تونس في نيسان 1990 ، جمعت القيادة الفلسطينية مع 400 رجل أعمال وخبير اقتصادي فلسطيني. وحظيت باهتمام كبير منهم لما أظهرته من رؤية علمية سياسية مقبولة لتنمية الاقتصاد الفلسطيني الوطني، لكنها لم تنشر في حينه أو لاحقا، لأسباب ربما لها علاقة بالحالة السياسية والمالية المتأزمة في سياق اندلاع حرب الخليج في غضون أشهر قليلة.
كان صايغ يرى، وبحق، أنه لا بد من إعداد هذه الدراسة لتثبيت الجدوى الاقتصادية لدولة فلسطينية منسجمة مع البرنامج الوطني، ولدحض الدراسات العالمية الدارجة التي تربط مستقبل الاقتصاد الفلسطيني حتما بالإسرائيلي. هنا كان الصايغ يرى تلك الجدوى في بناء القدرات الذاتية المنتجة (أو "سد الفجوات في توفير المقومات")، بالإضافة إلى إعادة الالتحام بالعمق الاقتصادي العربي، والانفكاك عن سيطرة الاقتصاد الإسرائيلي. طبعا كتب التاريخ للاقتصاد الفلسطيني مصيرا آخر، لم يتوقعه الصايغ(أو المنظمة)، بل من المؤكد أنه ما كان ليقبل وضع خطة تنموية لوطن ممزق في بقع جغرافية صغيرة منعزلة عن بعضها مع غياب السيادة على الموارد الطبيعية والعزلة القسرية عن المحيط العربي، كما نتج عمليا عن الاتفاقيات التي وقعتها منظمة التحرير مع إسرائيل.
لكل هذه الأسباب وغيرها، نعتقد أن كل باحث يهمه الوصول لفهم أعمق لتطور الفكر الاقتصادي الفلسطيني والجدل المتواصل منذ عقود حول السياسات التنموية الأنسب، سيستفيد من مراجعة هذه الدراسة، في جزئياتها أو كاملة، والاستمتاع قليلا بتفاؤل ومهنية تلك المرحلة الذهبية في العمل التنموي الفلسطيني المشترك.
يأمل المعهد أن نشر هذا الكتاب اليوم، بعد نشر دراستين استشرافيتين كبيرتين ("فلسطين وتجديد حياتها" 1919 و"الخبز مع الكرامة"، 1961 ) خلال السنوات السابقة، يضيف للمكتبة حول التاريخ الاقتصادي الفلسطيني، ويبرز محطة هامة في تشكيلها.