المراقب الاقتصادي 68 - الربع الرابع - تعافي منقوص وهشاشة
يسر معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني )ماس(، أن يقدم لجمهور القراء والمهتمين العدد السنوي للمراقب الاقتصادي )العدد 68 (، والمراقب هو نتاج العمل المثمر والسلس بين الطاقم البحثي للمعهد وشركاءه الثلاثة: سلطة النقد الفلسطينية، الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، وهيئة سوق رأس المال الفلسطينية. يحظى المراقب بثقة واسعة في مختلف الأوساط، وبات يشكل مصدر معلومات موثوقة. مع أول إصدار من المراقب في العام 1997 ، لم يتوقف هذا المرجع المعرفي عن العطاء، بصيغ مختلفة )سنوية ثم ربعية( وتحت عناوين مختلفة )اقتصادي و/أو اجتماعي(، ما يدل على مرونة المراقب واستجابته لرصد التطورات على الساحة الاقتصادية المحلية عقب مراحل سياسية متفاوتة، وإضافته العلمية المتواصلة. مع ثباته في رصد وتحليل الاداء الاقتصادي الكلي والفرعي، وما يتصل به من أدبيات ومفاهيم، واكب المراقب مراحل البناء الاقتصادي الفلسطيني وتأقلم معها.
طوال السنوات ال 25 الماضية، كان المراقب شاهداً: منذ الأيام الأولى المتفائلة لتسعينيات القرن الماضي، مروراً بمرحلة الانتفاضة الثانية، وما لحق به من تراجع اقتصادي في ظل ممارسات استعمارية قمعية، وانقسام سياسي داخلي مدمر، خروجاً من تلك الحقبة بمرحلة الإصالح وبناء مؤسسات الدولة، وصولاً إلى أيامنا هذه التي أصبح فيها التحدي الاقتصادي والاجتماعي يكبر ويلوح بأزمات متتالية في ظل توسع وتوحش المشروع الاستيطاني الاستعماري. لولا المساهمات الإحصائية والبحثية القيمة من شركائه الثلاثة والباحثين المتعاقبين الذين عملوا ضمن طواقم إعداد المراقب، لما كان هذا الإنجاز للمعهد ممكناً.
كذلك نذكر دور عدد من الاقتصاديين البارزين في قيادة المراقب وتحريره، أمثال الأساتذة أسامة حامد، وعمر عبد الرازق، وفضل النقيب، وصولاً إلى نعمان كنفاني، واسهامات المدراء العامين المتعاقبين. كل هؤلاء، يساندهم عشرات الباحثين طوال ما يقارب العقدين والنصف من الزمن، سهروا على ضمان مستويات الجودة العلمية والدقة التحليلية والتوسع المعرفي لهذا المنشور الرئيسي، لهم جميعاً تقديرنا وعرفاننا.
يغطي هذا العدد من المراقب الاقتصادي في جزئه الأول، مجمل التطورات الاقتصادية في العام 2021 ، وفي الجزء الثاني أبرز مؤشرات الربع الرابع من العام 2021 . يمتاز هذا العدد من المراقب بأنه أعد بصورة تصب جل التركيز على رصد أبرز التطورات السنوية، في حين تم التطرق إلى التطورات الربعية بشكل مقتصب نسبياً. ينظر قسم الاقتصاد الحقيقي إلى الاقتصاد الفلسطيني من منظور القطاعات المنتجة الرئيسية وأبرز جوانب البنية التحتية المرافقة لها. وقد ركز هذا القسم في هذا العدد على
الأداء الاقتصادي في العام 2021 ، بما يشمل الإنتاج والاستهلاك والأسعار وميزان المدفوعات. وقد تناول الجزء الخاص بالبنية التحتية قطاع المعلومات والاتصالات عبر التطرق إلى أحدث مؤشرات النفاذ لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في فلسطين.
تشير المعطيات السنوية إلى تعافٍ «منقوص » في الأداء الاقتصادي خ الل العام 2021 مقارنة مع العام 2020 ، مسجلاً نمواً حقيقياً في الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 7.1 %، وذلك بعد توفر اللقاحات لفايروس كورونا، وما صاحب ذلك من وقف للإجراءات الوقائية، وانتعاش الاستهلاك والاستثمار. فعلى الرغم من التحسن في أداء أبرز المؤشرات الاقتصادية في العام 2021 مقارنة بالعام 2020 الذي سجل انهياراً بنسبة 12 % في الناتج المحلي، و 15 % للدخل القومي الإجمالي، إلا أنّ أداء القطاعات الرئيسية والفرعية المختلفة لم يصل إلى مستواه المعهود في فترة ما قبل الجائحة، ما يؤكد هشاشة الاقتصاد الفلسطيني الذي يحتاج ربما إلى 3 سنوات لاستيعاب صدمة سنة واحدة. ضمن السياق نفسه أدى العدوان الاسرائيلي الأخير في أيار 2021 على قطاع غزة، بالتزامن مع تضييق الحصار إلى إضعاف فرص انتعاش اقتصاد قطاع غزة، الذي نما بمعدل 3.4 % مقارنة ب 7.8 % في الضفة الغربية. تظهر المؤشرات مرة أخرى تباين النمو الاقتصادي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، الذي امتد لفترة طويلة من الزمن. بالمحصلة، تبلغ الآن مساهمة قطاع غزة في الاقتصاد الفلسطيني حوالي الخمس. لتسليط الضوء بشكل موسع على هذا الانحسار، خصص قسم «تحت المجهر » لمراجعة الأوضاع الاقتصادية في قطاع غزة بعد سنوات من الحصار والحروب والانقسام السياسي، محللاً حجم الأضرار التي ألمت باقتصاد القطاع، وبالتالي الاقتصاد الفلسطيني ككل، خلال السنوات
الخمس عشرة الماضية. كما عرض بعض التقديرات الدولية لحجم الإنفاق الضروري لإعادة التعافي الاقتصادي للقطاع.
عند كتابة هذه السطور في منتصف العام 2022 ، فإن فرص تحسن الأداء الاقتصادي الفلسطيني تبقى أسيرة للعديد من المخاطر، أبرزها: استمرار الاحت الل في اقتطاع جزء من أموال المقاصة، مخاوف استمرار ارتفاع أسعار السلع والخدمات
على المستوى العالمي، واحتمالات تجدد مواجهات واسعة مع الاحت الل الإسرائيلي الزاحف دائماً. إن التداخل الضار بين هذه التأثيرات قصيرة المدى، والتشوه التاريخي في بنية الاقتصاد الفلسطيني، يضيف سنة جديدة لسجل العجز التنموي المتراكم للأرض الفلسطينية المحتلة.
كما أن باكورة أعمال المعهد لهذا العام «تقرير آفاق التنمية في فلسطين »2021 ، قد سلط الضوء بشكل مفصل على الحالة الراهنة للتنمية في فلسطين، وذلك من خلال قراءة موضوعية للإفرازات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للسنوات ال 25 التي تلت اتفاقيات أوسلو، وتحليل تداعياتها، وآفاق تعزيز فرص تجاوزها. قد تم انتهاز تزامن إصدار هذا التقرير مع إعداد العدد السنوي من المراقب، بتناوله ضمن قسم إصدارات حديثة، وقد تم التركيز على تناول موضوع التشوه الهيكلي في الاقتصاد الفلسطيني، يمكن تلخيص أبرز ما جاء في هذا القسم بأنّ التشوهات في أداء وهيكلية الاقتصاد الفلسطيني خلال ال 25 السنة الماضية، هي نتيجة طبيعية لممارسات وقيود الاحت الل الاسرائيلي، وهيمنة اقتصاده الأكبر حجماً والأكثر تقدماً وتجربة على الصعيد الخارجي، وأن قدرة التنمية الفلسطينية على التقدم معدومة، ما لم يزل الاحتلال.
من جانب آخر، ألقى قسم التنمية الاجتماعية لهذا العدد من المراقب الضوء على مفهوم اقتصاد الرعاية وأهمية تعزيزه كإحدى الأدوات الضرورية لمكافحة الفقر المتعدد الأبعاد، أما قسم مفاهيم وتعاريف اقتصادية، فقد استكمل تناول نظرية النقود «من كينز إلى فريدمان إلى نظرية النقد الحديثة .»
اخيراً وليس آخراً، شارك في إنجاز هذا العدد من المراقب تشكيلة جديدة-قديمة من الباحثين والمحررين، على رأسهم الدكتور فضل النقيب، والمدير العام رجا الخالدي، والدكتور نعمان كنفاني، مع المساهمات الدائمة من طاقم باحثي ماس )الدكتور رابح مرار، إس الم ربيع، إيمان سعادة وحبيب حن( وطبعاً الشركاء الثلاثة: الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني،
سلطة النقد الفلسطينية، هيئة سوق رأس المال. نأمل أن يجد الباحث وصانع السياسات والمواطن المهتم على حد سواء، في هذا الإصدار، الذي جعل من متابعة تطورات الاقتصاد والمجتمع الفلسطيني الحيوية مهمة مشتركة، ما يفيده ويساهم في تقدمه إلى الأمام.