إشكاليات الخطط الوطنية والتخطيط الفلسطيني في ظل الحرب على غزة - طاولة مستديرة 5

الكاتب: معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس)
السنة: 2024

يسهم التخطيط الاستراتيجي على مستوى القطاع العام في توجيه الموارد المالية والبشرية والمادية بشكل فعال نحو تحقيق الأهداف العامة التي تضعها الدول والحكومات، مما يضمن تحقيق أقصى استفادة من هذه الموارد، كما ويساعد في تحديد الأولويات الوطنية وتوجيه الجهود نحو القطاعات والمجالات الأكثر أهمية. أيضا، تساهم الخطط الاستراتيجية في تحسين كفاءة الأداء الحكومي من خلال تحديد أهداف واضحة وتوجيه الجهود لتحقيقها، وتعزز من الشفافية والمساءلة في عمل الحكومة من خلال وضع مؤشرات أداء ومتابعة تنفيذها، وتوفر رؤية واضحة للمستقبل. هذا بدوره يعزز الاستقرار السياسي والاقتصادي، ويسهم في تحسين جودة الخدمات العامة المقدمة للمواطنين من خلال تطوير السياسات والبرامج الحكومية. من ناحية أخرى، يساعد التخطيط الاستراتيجي الفعال والمدروس في وضع خطط لإدارة الأزمات السياسية والصحية والاقتصادية، مما يمكن الحكومات من التعامل مع الأزمات بفعالية وتقليل تأثيرها السلبي من خلال تطوير خطط طوارئ واستراتيجيات استجابة فعالة. من ناحية أخرى، يمكن من خلال التخطيط الاستراتيجي الفعال تحسين بيئة الاستثمار على مستوى الدول وجذب الاستثمارات الأ جنبية التي تساهم في تعزيز التنمية الاقتصادية. 

لذلك، نستطيع القول إن تبني التخطيط الاستراتيجي ليس خياراًً، بل ضرورة للدول النامية ومنظمات الأعمال، خاصة في ظل التطور التكنولوجي السريع والعولمة التي أدت إلى ازدياد كبير في حدة المنافسة بين الدول والشركات حول العالم. نتح عنها تغيرات وتحديات اقتصادية واجتماعية وبيئية كبيرة والتي تضع الدول والحكومات أمام تحدي كبير يرتبط في إدارة مواردها الاقتصادية وتوفير الميزانيات الضرورية لتعزيز التنمية المستدامة، ناهيك عن الأزمات السياسية والصحية التي تظهر بين الحين والآخر. لذلك تعتبر ممارسة الدول والمؤسسات للتخطيط الاستراتيجي أداة حيوية للتكيف مع التغيرات السريعة، ومواجهة الأزمات، والسير نحو تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة، وحشد وتوجيه الموارد نحو المشاريع والقطاعات ذات الأولوية، وتحديد الميزانيات الضرورية لتعزيز الجهود المشتركة بين مختلف المؤسسات الحكومية.

تسلمت السلطة الوطنية الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو قطاع خدمات عامة مجزأ وضعيف ومهلهل، واقتصر بشكل أساسي في حينه على قطاعات الصحة والتعليم وبعض الخدمات الاقتصادية، التي كانت تعاني من تردي كبير في البنية التحتية. انطلاقا من مسؤولياتها في توفير الخدمات العامة للمواطنين، سارعت السلطة الفلسطينية في إنشاء الوزارات الفلسطينية الأولى لتيسير تقديم الخدمات الأساسية: وزارة الصحة، وزارة الشؤون الاجتماعية )التنمية الاجتماعية لاحقا(، وزارة التربية والتعليم، وزارة التعليم العالي.

ابتدأ الاهتمام الرسمي بالتخطيط منذ تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية وبداية تطوير الهياكل الحكومية الرسمية، والذي تجسد مبكرا في استحداث وزارة التخطيط والتعاون الدولي بين 1994 - 2014 ، لتعنى بشؤون التخطيط الداخلي والخارجي للحكومة الفلسطينية وتعزيز التعاون مع دول العالم في شتى المجالات، ولتكون الجهة الحكومية المسؤولة عن وضع السياسات والخطط الإستراتيجية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في فلسطين. لكن عملية التخطيط الإستراتيجي الحكومي بصورتها الحالية المنظمة والشاملة، لم تبدأ إلا بعد العام 2007 ، أي في عهد الحكومة الفلسطينية الثانية عشر والتي عُُرفت بحكومة تسيير الأعمال بعد الانقسام الفلسطيني. قبل ذلك، عمدت الحكومة الفلسطينية إلى وضع خطة تنموية ثلاثية، ثم خطة تنمية خمسية، تبعها قيام بعض الوزارات بتطوير خطط خمسية.

تأثرت جهود التخطيط الاستراتيجي العام ودوره في تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية وإدخال تحسينات ملموسة في الخدمات العامة ومستويات معيشة السكان في فلسطين، بشكل كبير بالتحديات الكبيرة التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي، ناهيك عن الحصار المشدد والحروب المتتالية على قطاع غزة منذ العام 2006 . أدى ذلك إلى تراجع التنمية الاقتصادية وزيادة التحديات الاجتماعية. مارس الاحتلال خلال العقد الماضي حصارا ماليا على الحكومة الفلسطينية تحت ذرائع مختلفة، كما يقوم بعمليات قرصنة متتالية على أموال المقاصة التجارية. حد كل ذلك بشكل كبير من قدرة الحكومة الفلسطينية على توفير الميزانيات الضرورية لتطوير البنية التحتية الخدمية وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين. 1 منذ منتصف العام 2023 ، انطلقت الجهود المكثفة في مكتب رئيس الوزراء والأمانة العامة لإعداد خطة التنمية الوطنية للأعوام ) 2024 - 2029 ( بالشراكة والتشاور مع الدوائر الحكومية المختلفة، وأثمرت تلك الجهود عن إعداد الإطار العام للخطة، وإنجاز المسودات الأولى للخطط الإستراتيجية للوزارات والمؤسسات الحكومية للأعوام - 2024 2029 بما ينسجم مع المنهجية المحدثة للتخطيط التي تم اعتمادها من قبل مجلس الوزراء. كان من المفترض أن يتم إنجاز الخطط نهاية العام 2023 ، ومن ثم اعتمادها وبدء العمل بها خلال العام 2024 . لكن على أثر الحرب التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة والضفة الغربية، تم تعليق العمل على الخطط الإستراتيجية المفترضة للأعوام 2024 - 2029 ، بينما شرعت الحكومة في إعداد خطة طوارئ للعام 2024 . 

بكل تأكيد أفرزت الحرب الحالية تأثيرات اقتصادية واجتماعية كبيرة في كل من قطاع غزة والضفة الغربية. في ظل الواقع الاقتصادي والاجتماعي الصعب، هناك إشكالية كبيرة قائمة حول مدى قدرة الخطط الإستراتيجية الوطنية التي تم إعدادها وفق سيناريوهات وسقف سياسي ما قبل 7 أكتوبر )خاصة تلك للأعوام 2024 - 2029 ( للاستجابة للواقع الحالي الذي تحول في كل أشكاله وباتت «التنمية » بعيدة المنال في ظرف اقتصادي سياسي يتسم بالكفاف والتصدي للاحتلال. تم بناء هذه الخطط على واقع اقتصادي واجتماعي مختلف، وبالتالي، من الضروري إعادة النظر ليس فقط في مضمون الخطط الإستراتيجية ومدى استجابتها للتغيرات الدراماتيكية الأخيرة، بل في شكل وهيكلية وآليات التخطيط الاستراتيجي في ظل التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أفرزتها الحرب، وحجم الدمار الهائل في البنية التحتية والانتشار الكبير للبطالة والفقر وانعدام الأمن الغذائي، والذي يتزامن مع أزمة مالية حكومية غير مسبوقة. تهدف هذه الورقة الخلفية إلى تسليط الضوء على واقع التخطيط الاستراتيجي على مستوى الحكومة والقطاع العام في فلسطين، من خلال تقديم خلفية تاريخية لتطور التخطيط الاستراتيجي ومدة معالجتها لتحديات التنمية في فلسطين في كل مرحلة من المرحل. كما سيتم التطرق إلى أبرز التحديات التي واجهت وما زالت تواجه الخطط الاستراتيجية على المستوى الكلي والقطاعي، والتي حدت من قدرة صانع السياسة على تنفيذ الأهداف الاستراتيجية والبرامج والمشاريع المرتبطة بها ضمن الجدول الزمني والموازنات المقترحة في مختلف المؤسسات العامة. 

كذلك تناقش الورقة توجهات التخطيط الإستراتيجي المستقبلية في ظل الواقع الاقتصادي والاجتماعي الصعب والمعقد غير المسبوق نتيجة للحرب التدميرية على فلسطين. السؤال الذي يطرح نفسه الآن والذي ستحاول هذه الورقة الإجابة عنه هو: هل الخطط والأطر الاستراتيجية القائمة قادرة على الاستجابة للواقع الحالي الذي يشهد تدهورا كبيرا في كافة المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية؟ وهل هناك ضرورة لإعادة النظر في أي عملية تخطيط مستقبلية في التخطيط الاستراتيجي الحكومي ليتعامل مع الضفة الغربية وقطاع غزة كوحدة واحدة وإلى جمع التخطيط المكاني والقطاعي والمحلي/الإقليمي في إطار ومؤسسة تخطيطية واحدة؟؟

تحميل الملف