نظرية النقود: من كينز إلى فريدمان إلى نظرية النقد الحديثة

نظرية النقود: من كينز إلى فريدمان إلى نظرية النقد الحديثة

The Theory of Money: From Keynes to Friedman to the Modern Monetary Theory

 

يقول الشاعر الفرنسي بول فاليري (1871-1945) إن الرجل العظيم يموت مرتين، في المرة الأولى كرجل، وفي المرة الثانية كعظيم. القصد من ذلك أنه عندما يغيّب الموت رجلاً عظيماً، فإن ما حققه خلال حياته من إنجازات وما جسده من أفكار يظل مؤثراً وفعالاً في حياة الناس، وكأنه لا يزال حياً بينهم. لكن مع مرور الأيام والسنين وتغير الظروف يواجه الناس معطياتٍ وهموماً جديدة تبتعد بهم عن إنجازات الرجل وأفكاره، حتى يأتي اليوم الذي يتوقف تأثيره في حياتهم بشكل كامل، وعندئذ يبدو وكأنه مات مرة أخرى.

يبدو أن هذه المقولة تتكرر مع عظماء الفكر الاقتصادي أكثر من أي مجال آخر. إذ نشهد هذه الأيام تطبيقاً صارخاً ومدوياً للمقولة مع عظيم "نظرية النقدية". فلقد صدر عدد آب/أيلول للعام 2021 من مجلة الجمهورية الجديدة (New Republic) وعلى غلافه صورة ميلتون فريدمان (1912-2006) وعنوان المقال الرئيسي للعدد: "الموت الثاني لميلتون فريدمان".

جاء المقال بقلم زخاري كارتر، وفيه يروي كيف أن فكر فريدمان، الذي وضع مسمى "النقدية" (Monetarism) والذي تم تبنيها من صندوق النقد الدولي في السبعينيات، ثم من قبل أهم البنوك المركزية في العالم منذ مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، أصبح الآن فكراً منبوذاً وبدون أي تأثير.

الواقع أنّ هذا الإعلان جاء متأخراً لأكثر من عقدين من الزمن. فلقد اتضح، بشكل جلي، خطأ نظرية "النقدية" على المستوى النظري، وفشلها على المستوى العملي منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي. مع ذلك، فإن في الإعلان عن نهايتها في الوقت الحاضر دلالة تاريخية.

تتضح هذه الدلالة عندما نلاحظ أن ميلتون فريدمان وأتباعه لم يطرحوا نظرية "النقدية" على أنها "ثورة" في الفكر الاقتصادي، ولكن على أنها "ثورة مضادة" تهدف إلى دحض كل أطروحات الثورة الكينزية.[1] ولهذا، يبدو مناسباً أن يتم الإعلان عن فشل "الثورة المضادة لفريدمان" ونهايتها في الوقت الذي تشهد فيه "الثورة الكينزية" انبعاثاً جديداً على يد "النظرية النقدية الحديثة" (Modern Monetary Theory).

إن فهم طروحات "النظرية النقدية الحديثة" في السياق التاريخي لتطور الفكر الاقتصادي، يستدعي تحديد المفاهيم التي طرحتها "نظرية النقدية" لفريدمان ضد نظرية النقد الخاصة بالفكر الكينزي، لنرى كيف قاد فشل هذه الطروحات على المستوى النظري والعملي إلى ظهور "نظرية النقد الحديثة". هذا سيكون موضوع "مفاهيم وتعاريف اقتصادية" لهذا العدد، والعدد القادم من المراقب.

من أهم طروحات الفكر الكينزي تلك التي تقول إن السياسة النقدية (تحكم البنك المركزي بحجم الكتلة النقدية) هي سياسة غير فعالة، ولا تصلح للتغلب على الأزمات التي يتعرض لها الاقتصاد بشكل متكرر، سواء أكانت أزمات ركود وتفشٍّ للبطالة، أم أزمة تضخم مالي وتسارع مستمر لارتفاع الأسعار. وسبب ذلك، وفق النظرية الكينزية، أن تأثير أي تغيير في حجم الكتلة النقدية على النشاط الاقتصادي هو تأثير غير مباشر وغير مضمون. فمثلاً، أثناء حدوث ركود اقتصادي، يعمد البنك المركزي إلى زيادة الكتلة النقدية في الاقتصاد (عن طريق تفعيل عمليات السوق المفتوحة (Open Market Operation) بشراء سندات حكومية من الأسواق المالية)، لكن زيادة الكتلة النقدية بحد ذاتها لا تقود تلقائياً إلى زيادة الإنفاق على الاستثمار أو الاستهلاك. إذ إن حدوث ذلك يتطلب، أولاً، انخفاض سعر الفائدة، ويتطلب، ثانياً، إقناع المستثمرين بأن من صالحهم الاقتراض من البنوك بسعر الفائدة المنخفض والإقدام على الاستثمار، وإقناع المستهلكين بأن من صالحهم الاقتراض وتمويل شراء السلع المعمرة. حدوث كلا هذين الأمرين غير مضمون. ففي أوقات ركود كبير وطويل تكون التوقعات متشائمة لدرجة أن البنوك والمؤسسات المالية الأخرى لا تعمل على التخلص من الزيادة في حجم الكتلة النقدية في محافظهم عبر زيادة إنفاقهم، بل يعملون على الاحتفاظ بتلك الزيادة النقدية على أمل تحسن الأوضاع في المستقبل. هذه الحالة هي التي أطلق عليها كينز لقب "فخ السيولة" (Liquidity Trap). بالنسبة إلى المحظور الثاني، من الممكن أن تعمل زيادة حجم الكتلة النقدية على تخفيض سعر الفائدة، ولكن ذلك لا يضمن أن يستجيب المستثمرون والمستهلكون ويقدموا على زيادة إنفاقهم. كما يقول المثل: "تستطيع أن تأخذ الحصان إلى النهر، ولكنك لا تستطيع إجباره على الشرب".

بالمقابل، طرحت النظرية الكينزية "السياسة المالية" (التحكم في مستوى الإنفاق العام ومستوى الضرائب) على أنها سياسة فعالة لأنها مباشِرة وذات تأثير فوري على النشاط الاقتصادي. إذ عندما يحدث الركود الاقتصادي، وتستفحل البطالة، ويحجم رجال الأعمال عن استثمار أموالهم بسبب توقعاتهم المتشائمة، تقوم الدولة باقتراض تلك الأموال الراكدة وإنفاقها على المشاريع العامة التي توظف العاطلين عن العمل، ما يولد دخلاً جديداً يسهم، بدوره، في زيادة الإنفاق العام، ما يعمل على تحريك النشاط الاقتصادي، ويساهم، بشكل مباشر، في إنهاء الركود. هذا ما يحدث، أيضاً، عندما تعمد الدولة إلى تخفيض الضرائب، ما يزيد الدخل المتاح، ويزيد بالتالي الإنفاق العام والنشاط الاقتصادي.

عارضت مدرسة فريدمان النقدية الفرضيات الكينزية عن فعالية السياسة المالية بشكل كامل. وطورت مفهومين أساسيين لهذه الغاية، أولهما مفهوم "الطرد الاقتصادي" (Crowding Out) لمعارضة فعالية سياسة تمويل الإنفاق الحكومي عن طريق الاقتراض، وثانيهما مفهوم "الدخل الدائم" (Permanent Income) لمعارضة فعالية سياسة تمويل الإنفاق العام عن طريق زيادة الضرائب.

مفهوم "الطرد الاقتصادي" يعني أنه عندما تلجأ الحكومة إلى الاقتراض من أسواق المال (عن طريق بيع السندات الحكومية) لتمويل الإنفاق العام، فإن هذا يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة، وإلى تقليص الاستثمار الخاص؛ أي إن زيادة الإنفاق العام تؤدي الى مزاحمة مستثمري القطاع الخاص وإلى طردهم من السوق. على ذلك، فإن زيادة الإنفاق الحكومي تتم موازنتها بانخفاض الاستثمار الخاص، بحيث يبقى مستوى الإنفاق الكلي في الاقتصاد على حاله.

أما مفهوم "الدخل الدائم" فيعني أن الفرد يختار مستوى استهلاكه وادّخاره السنوي ليس اعتماداً على دخله في تلك السنة؛ أي اعتماداً على دخله الحالي أو الجاري (Current Income)، ولكن اعتماداً على دخله الدائم؛ أي على متوسط دخله المتوقع على المدى الطويل. هكذا، ففي السنة التي يكون فيها دخله الحالي أعلى من دخله الدائم، فإنه لا يزيد من مستوى إنفاقه، وإنما يزيد من ادّخاراته. في السنة الي يكون فيها دخله الحالي أقل من دخله الدائم، فإنه لا يقلص من مستوى استهلاكه، وإنما يقترض ليبقى استهلاكه متسقاً مع مستوى دخله الدائم. هذا يعني أن تخفيض الضرائب أو رفعها لا يقود، كما تدعي النظرية الكينزية، إلى زيادة الإنفاق الخاص أو تخفيضه، وإنما تقود إلى زيادة مستوى الادخار أو تقليصه.

بالمقابل، تبنت نظرية فريدمان "السياسة النقدية"، وادّعت أن الكتلة النقدية وليس الإنفاق الحكومي أو مستوى الضرائب هو المتغير الذي يؤثر في النشاط الاقتصادي بشكل مباشر وفعال. وبنى فريدمان موقفه هذا على أساس أن "آلية التحويل " (Transmission Mechanism) التي تتبناها النظرية الكينزية، والتي على أساسها يتم تأثير الكتلة النقدية على النشاط الاقتصادي عبر سعر الفائدة، هي آلية غير حقيقية. يصف فريدمان الآلية الحقيقية كالتالي: عند كل فرد وكل مؤسسة محفظة تشتمل على كل الأصول التي يملكها من أملاك عقارية، وأسهم، وسندات، وسلع معمرة، ونقود. إنّ كميات هذه الأصول في كل محفظة تتحدد وفق ما يعتقد صاحبها أنه الوضع الأمثل له. وعندما يعمل البنك المركزي على زيادة الكتلة النقدية في الاقتصاد (عن طريق شراء السندات الحكومية من الأفراد والمؤسسات) تزداد كمية النقود في المحافظ، ويصبح وضعها دون المستوى الأمثل ((Suboptimal. بهدف استعادة المستوى الأمثل للنقود، يقوم كل فرد وكل مؤسسة بالتخلص من فائض النقود، عبر شراء أصول أخرى كالسلع المعمرة مثلاً. هذا يعني أن تأثير التغير في مستوى الكتلة النقدية التي يحدثها البنك المركزي، هو تأثير مباشر، ولا يتم عبر المرور على سعر الفائدة.[2] مع ذلك، فإن انعكاس ذلك التأثير المباشر على النشاط الاقتصادي لا يتم على الفور، ولكن يكون متأخراً لفترة زمنية غير معروفة، قد تكون بضعة أسابيع وقد تمتد لأكثر من سنة. لذلك، طالب فريدمان بعدم استعمال السياسة النقدية وفق مقتضى الظروف، ولكن وفق قانون ثابت، بأن تتم زيادة الكتلة النقدية في كل سنة بمعدل يتسق مع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي. هكذا تكون نظرية فريدمان قد جردت الدولة من كل أدواتها. فالسياسة المالية غير مجدية ويجب عدم استعمالها، والسياسة النقدية فعالة، ولكن من الخطأ ترك الحرية للبنوك المركزية لاستعمالها "حسب الظروف".

تضافرت الظروف السياسية والاقتصادية في الولايات المتحدة في سنوات النصف الثاني من عقد الستينيات من القرن الماضي، وتمخضت عن وضع ملائم لطروحات فريدمان ونظريته النقدية. فلقد أقدمت إدارة الرئيس لندن جونسون على تمويل حرب فيتنام ومشاريع "المجتمع العظيم"[3] الذي تبنته إدارته، ليس عن طريق فرض ضرائب، ولكن عن طريق الاقتراض. قاد هذا الوضع إلى التضخم، لأنه لم يتم في وقت ركود اقتصادي، بل، على العكس، في وقت انتعاش اقتصادي.  عندما أقدمت الإدارة على مقاومة التضخم بتفعيل أدوات السياسة المالية، عن طريق فرض ضرائب إضافية، ولم تنجح تلك السياسة في وقف التضخم، سارع فريدمان وأنصاره إلى اعتبار ذلك الفشل فشلاً للنظرية الكينزية. ومع مطلع السبعينيات وأزمة الطاقة التي قادت إلى أزمة "الركود التضخمي"، ومع عجز أدوات السياسة المالية في معالجتها، استطاع فريدمان وأتباعه إقناع قطاع كبير من الاقتصاديين في الولايات المتحدة وبريطانيا بفشل النظرية الكينزية وتفوق النظرية النقدية.

كان أول من تبنى النظرية النقدية صندوق النقد الدولي، الذي وجد في دعوة فريدمان المستمرة لتخفيض الإنفاق الحكومي وتحجيم دور الدولة في الاقتصاد، المبرر الفكري لبرنامج الاستقرار الذي كان الصندوق يطالب دول العالم الثالث بتطبيقه كشرط للحصول على القروض. عندما أصبحت مارجريت ثاتشر رئيسة وزراء بريطانيا، كان أول ما فعلته أن عينت الأستاذ ألان والترز (Alan Walters)، الذي كان وقتها من ألمع أتباع فريدمان في بريطانيا، مستشارها الاقتصادي. ثم أعلنت أن حكومتها تتبنى بشكل كامل طروحات مدرسة فريدمان النقدية في مكافحة التضخم. بعد سنتين، أصبح رونالد ريغان رئيساً للولايات المتحدة، وكان أول ما قام به هو دعوة فريدمان إلى البيت الأبيض للاستماع إلى إرشاداته ونصائحه. لقد تحدثت تقارير صحافية يومها عن أن دعوة فريدمان إلى البيت الأبيض بأجواء احتفالية كان بمثابة الإعلان الرسمي على انتصار ثورته المضادة على الفكر الكينزي.[4]

في الجزء الثاني من هذه المراجعة الاقتصادية سنرى كيف أن ذلك الاحتفال كان مبالغاً به، وأنه تم في أجواء انتشار الفكر السياسي المحافظ على طرفي المحيط الأطلسي، وأن النظرية النقدية لم تكن نظرية علمية، كما روج لها فريدمان وأتباعه، بل كانت، في الحقيقة، مبدأً أيديولوجياً محضاً وجدت فيه القوى اليمينية في العالم أداة تخدم مصالحها في تحجيم دور الدولة في الاقتصاد. ثم نرى كيف أن انهيار أطروحات نظرية فريدمان النقدية، قاد بشكل تلقائي إلى ظهور "النظرية النقدية الحديثة"، كما سنرى أن هذه النظرية "الحديثة" لم تأتِ في الواقع بأي شيء جديد، إذ إنها تأخذ كل أطروحاتها من الفكر الكينزي، ولكن بشيء من المبالغة غير الضرورية وغير المفيدة.

 

 

 

[1] See: Harry, G. Johnson (1971) The Keynesian Revolution and the Monetarist Counter-Revolution. American Economic Review. Vol.61. No.2. P 1-14.

James Tobin (1981) The Monetarist Counter-Revolution—An Appraisal. The Economic Journal (March 1981)91, p 29-41.

[2] من الأسئلة التي يطرحها تلامذة السنة الأولى لمادة الاقتصاد الكلي السؤال التالي: إذا كان مقدار النقود في محافظ الأفراد بمستواه الأمثل، فلماذا يتجاوبون مع رغبات البنك المركزي فيبيعونه سندات ليحصلوا على نقود تزيد من مقدار النقود في محافظهم إلى المستوى دون الأمثل؟ والجواب طبعاً هو أن الأفراد يقومون بذلك لإنهم يحققون بذلك ربحاً صافياً.

[3] شملت مشاريع برنامج "المجتمع العظيم" إصلاحات في أنظمة التعليم والصحة والمواصلات ومشاكل المدن والفقر في الأرياف، ومساعدة المواطنين السود على النهوض بواقعهم السيء الذي هو نتيجة عقود من التمييز العنصري.

[4] ذهب بعضهم يومها إلى حد وصف الاحتفال بفريدمان في البيت الأبيض على أنه بمثابة "العودة" (The Restoration)، وهي الكلمة التي تصف عودة الملكية في بريطانيا في العام 1660 بعد سنوات الحرب الأهلية وحكومة الوصاية (Protectorate).