تسعير الكربون
Carbon Pricing

 

هناك إجماع الآن بين الخبراء والسياسيين على أن إنقاذ الكرة الأرضية من الكوارث البيئية الماحقة التي تحف بها، يقتضي أن لا يزيد متوسط حرارتها، خلال النصف الثاني من هذا القرن، على 1.5-2.0 درجة مئوية عما كان عليه قبل الثورة الصناعية. ولقد تم تضمين الالتزام بهذا السقف في وثائق مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي، الذي عقد في باريس في 2015، التي صادقت عليها 174 دولة. من ناحية أخرى، هناك، أيضاً، ما يشبه الإجماع على أن الوسيلة الأكثر فعالية (أي الأكثر نجاحاً والأقل كلفة) لتحقيق هذا الهدف هي عبر تطبيق متدرج وشامل لنظام تسعير الكربون.

 

الوقود الأحفوري وغازات الدفيئة

شهدت الكرة الأرضية ارتفاعاً مستمراً في متوسط حرارتها منذ انطلاق الثورة الصناعية. ويعود هذا، بشكل رئيس، إلى الاحتباس الحراري، الذي يسببه تراكم غازات الدفيئة (Greenhouse Gases)، مثل ثاني أوكسيد الكربون، وغاز الميثان، في الغلاف الجوي. وتتولد هذه الغازات، أساساً، من استهلاك الوقود الأحفوري (مثل الفحم، وزيت الوقود، والغاز الطبيعي، والبنزين). وعلى ذلك، فإن الحد من الزيادة في حرارة الأرض، يتطلب تقليص استهلاك سكان الكرة الأرضية للوقود الأحفوري، واستنباط مصادر بديلة للطاقة. وهو تحديداً ما يسعى "تسعير الكربون" إلى تحقيقه.

 

يجسد ارتفاع حرارة الكرة الأرضية المبدأ الذي يطلق عليه الاقتصاديون اسم "فشل السوق"؛ ذلك لأن مستهلكي مصادر الطاقة الأحفورية ظلوا لسنوات طويلة يطلقون غازات الدفيئة في الجو دون أن يتحملوا التكاليف الباهظة التي يسببها هذا الإطلاق؛ أي إنهم كانوا يستفيدون على حساب الآخرين، وهو ما يتعارض مع الأداء السليم للسوق الفعال. وتقدر بعض الدراسات أن التكلفة الاجتماعية (أي إجمالي التكلفة المباشرة وغير المباشرة لأنواع الأضرار كافة) لكل طن من غاز ثاني أوكسيد الكربون يتم إطلاقه في الجو، تبلغ نحو 3 آلاف دولار.[1] تسعير الكربون يرمي، عملياً، إلى تصحيح هذا الخلل في أداء الأسواق، وإلى تحميل الطرف الملوث مسؤولية التلوث الذي يقوم به وتكاليفه.[2]

 

طريقتان لتسعير الكربون

تتم عملية تسعير الكربون بطريقتين: الأولى هي عبر فرض "ضريبة الكربون"، وهي ضريبة تحددها الحكومة على محتوى الكربون في كل نوع من أنواع الوقود الأحفوري (أو على كمية الغاز المنبعث، ولكن هذا أقل استخداماً من الضريبة على المحتوى الكربوني). الطريقة الثانية تعرف باسم "تداول تصاريح الانبعاث" (ETS). تقوم الحكومة عند استخدام هذه الطريقة بتحديد كمية غازات الدفيئة التي ترغب في أن تنبعث من أراضيها، وبتوزيع تصاريح إطلاق هذه الغازات على المصانع والشركات (أو بيع هذه التصاريح بأسلوب المزاد المفتوح). ويتوجب على المصانع والشركات الحصول على تصريح لكل طن من غازات الدفيئة التي تطلقها. ويمكن للمصانع والشركات بيع وشراء التصاريح فيما بينها. عملية البيع والشراء هذه تؤدي إلى خلق سوق (عرض وطلب) على غازات الدفيئة، وتلقائياً إلى تحديد سعر للغازات المنبعثة. يتبدى الفرق الأساسي بين الطريقتين في أن منهج التصاريح يسمح للحكومة بتحديد دقيق لكمية الغازات المنبعثة، على عكس أسلوب الضريبة. ولكن منهج فرض الضريبة على الكربون أكثر تفضيلاً، نظراً لبساطة تطبيقه واستقرار الأسعار فيه. يطبق الاتحاد الأوربي والصين نظام التصاريح، في حين فضلت السويد وكندا واليابان تطبيق نظام الضريبة. أما ألمانيا وفرنسا فإنهما تطبقان خليطاً من نظامي التسعير والتصاريح معاً في آن واحد.

 

قنوات التأثير

تؤكد نماذج المحاكاة في الدراسات الدولية الموسعة، أن الحد من الارتفاع في حرارة الكرة الأرضية إلى أقل من درجتين مئويتين هو هدف قابل للتحقيق باستخدام تسعير الكربون. إذ تعمل الزيادة التدريجية، والمعلنة مسبقاً، في تكاليف إطلاق غازات الدفيئة على ثلاث جبهات لتحقيق هذا الهدف: 1) تعديل سلوك المنتجين والمستهلكين ودفعهم إلى تقليص استخدام الوقود الأحفوري والتحول باتجاه مصادر بديلة للطاقة. 2) تحفيز الاستثمار في استنباط تقنيات مستجدة للتوفير في استخدام الطاقة وخلق مصادر بديلة. 3) توليد إيرادات إضافية للحكومات من برامج تسعير الكربون يمكن استخدامها لإجراء تعديلات على النظم الضريبية المتحيزة، والاستثمار في البنى التحتية المحابية للبيئة وتعويض المتضررين. وعلى الرغم من تواضع سعر الطن من غاز ثاني أوكسيد الكربون الذي يطلق في الجو في معظم برامج التسعير الحالية، فإن هذه البرامج مجتمعة حققت للحكومات دخلاً بلغ 53 مليار دولار في العام 2020.[3]

 

تعهدات الحد من غازات الدفيئة

هناك تركز مرتفع في أماكن إطلاق التلوث، إذ إن الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والهند قامت بإطلاق أكثر من 60% من إجمالي غاز ثاني أوكسيد الكربون المتولد من نشاطات معينة (الوقود الأحفوري وصناعة الإسمنت) في العام 2015. لا بل إن مجموعة دول العشرين تتحمل مسؤولية إطلاق نحو 85% من إجمالي هذه الغازات.[4]

 

تتابع دول العالم الآن الإعلان عن تعهداتها بتخفيض كميات غازات الدفيئة المنبعثة من أراضيها. على سبيل المثال، أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن، مؤخراً، أن الولايات المتحدة سوف تقلص صافي كمية غازات الدفيئة المنبعثة من أراضيها بنسبة 50% مع حلول العام 2030 مقارنة بالعام 2005 (تعهد غير ملزم). وتعهد الاتحاد الأوروبي بتخفيض نسبته 55% في العام 2030 مقارنة بالعام 1990، هذا إلى جانب التعهدات المختلفة للدول الأعضاء (مثلاً تعهدت الدنمارك بتخفيض نسبته 70% في 2030، والوصول إلى حيادية بيئية في 2050). وأعلنت المملكة المتحدة التزامها بتخفيض نسبته 78% في العام 2035. كذلك تعهدت الصين بالقضاء كلياً على صافي انبعاث غازات الدفيئة، أي التوصل إلى حيادية بيئية، من أراضيها في العام 2060.

 

الفجوة بين السعر المطلوب والسعر الفعلي

في مقابل هذه التعهدات الواعدة تبدو الصورة على أرض الواقع أقل تفاؤلاً. إذ إن نحو 13% من غازات الدفيئة في العالم كانت تخضع للتسعير حتى عهد قريب. ولقد ارتفعت النسبة إلى 22% في العام الحالي بعد البدء بتطبيق نظام تسعير واسع للكربون في كل من الصين وألمانيا. ولكن ما زال تسعير الكربون غير مطبق في العديد من الدول، من بينها عدد من الولايات الكبيرة في الولايات المتحدة الأمريكية، والهند وأستراليا.[5] وتشير الدراسات إلى أن تحقيق هدف زيادة حرارة الأرض بأقل من درجتين مئويتين، يقتضي أن يبلغ سعر طن ثاني أوكسيد الكربون أكثر من 75 دولاراً. صحيح أن سعر الطن، في الاتحاد الأوروبي مثلاً، ليس بعيداً جداً عن هذا (نحو 50 يورو)، لكن السعر لا يزيد على 10 دولارات في الصين مثلاً. لا بل إن متوسط السعر السائد في إجمالي برامج تسعير الكربون المطبقة حالياً في العالم (نحو60 برنامجاً) أكثر اختلافاً بكثير عن السعر المطلوب، إذ إنه لا يتجاوز 3 دولارات لكل طن

 

[2] للتوسع في هذا الموضوع أنظر معالجتنا لمفهوم "الخوارجية السلبية " في العدد السابق من المراقب الاقتصادي الربعي (رقم 62)

[5] IMF (2021), Finance & Development: How to Drive Deep Decarbonization.