الخوارجية

Externalities 

 

تعتمد نظرية "اقتصاد السوق الحر" على فرضية أساسية تقول إن آليات العرض والطلب تعمل تلقائياً لضمان: 1) إنتاج كميات من السلع والخدمات مطابقة للكميات المطلوبة.  2) أن أسعار هذه الخدمات والسلع تغطي تماماً تكاليف إنتاجها من جهة، وتحقق تعظيم أرباح المنتجين لها والمنافع التي يستمدها المستهلكون من إنفاق أموالهم عليها من جهة أخرى.  3) أن الكميات والأسعار هذه لا تضمن فقط تحقق الظروف المثلى للأفراد الذين يقومون بعمليات الإنتاج والاستهلاك، ولكن تضمن، أيضاً، تحقق الظرف الأمثل للمجتمع ككل، أي أن الظرف الأمثل الفردي هو أيضاً الأمثل لكافة أفراد المجتمع مجتمعين.

فشل الأسواق

تعترف نظرية الرفاه النيوكلاسيكية بأن هناك حالات تفشل فيها آليات السوق الحرة في تحقيق الأوضاع المثلى للإنتاج والاستهلاك.  ويطلق على هذه الحالات اسم "فشل الأسواق".  ومن بين هذه الحالات، الظرف الذي لا يتحمل فيه المنتجون كامل تكاليف الإنتاج للبضائع التي ينتجونها ويبيعونها.  على سبيل المثال، عندما يقوم مقاول البناء بحفر أساسات بناء جديد في منطقة مأهولة، فإنه يأخذ بالاعتبار تكاليف الحفر والبناء ذاتها، ولا يأخذ في حساباته التكاليف الإضافية التي يتحملها كافة الجيران بتأثير الضجيج والغبار (وربما حجب الطلة الجميلة، وزياد التنافس على مواقف السيارات، وغيرها).  هذا المقاول لا يتحمل كافة تكاليف نشاطه الإنتاجي، وهو ما يعني أن هناك فارقاً وفجوة بين التكاليف الفردية والتكاليف الاجتماعية (أي إجمالي التكاليف التي يتحملها كافة أفراد المجتمع من النشاط الإنتاجي المعني)، وهو ما يتعارض، بالضرورة، مع المبادئ الثلاثة المذكورة أعلاه.  إذ طالما كان السعر لا يغطي كافة التكاليف المترافقة مع الإنتاج، أي طالما كان هناك تباين بين الحساب الفردي والاجتماعي، فإن آلية السوق الحرة لا تضمن أن ما يتم إنتاجه هو الأمثل كمياً، وأن السعر يتطابق مع التكاليف الحدية، وأن مصالح المجتمع ككل تتطابق تلقائياً مع المصالح الفردية.  ويطلق على الآثار السلبية التي يتضرر منها طرف ثالث ليس له علاقة بالإنتاج الذي يولد هذه الآثار اسم "الخوارجية السلبية".  وهي تعادل الفارق بين التكاليف الفردية والتكاليف الاجتماعية في عمليات الإنتاج.  ويطلق عليها أيضاً اسم "التكاليف الخارجية".  والأمثلة الأكثر شيوعاً ووضوحاً للخوارجية السلبية تتعلق بالتلوث البيئي للهواء، ولجداول المياه والبحار، والأراضي، وهي تكاليف كان المنتجون (وبعضهم ما زال) يعتبرونها خارجية، يقع عبء تحملها على أفراد المجتمع الآخرين.  ويشكل تقدير القيمة النقدية للخوارجية السلبية وطرق الحد منها جوهر أبحاث اقتصاد البيئة.

 

الخوارجية السلبية والخوارجية الإيجابية

كما أن هناك حالات يقع فيها عبء تحمل جزء من التكاليف على كاهل طرف ثالث، لا هو بالمنتج/البائع ولا المستهلك/المشتري، هناك أيضاً حالات يحقق فيها الأفراد منافع ومكاسب مجانية على حساب آخرين قاموا بالدفع والاستثمار.  خذ على سبيل المثال التطعيم ضد وباء منتشر.  عندما يتطعّم الفرد، فإن هذا يترافق مع أثرين، أولهما الحماية الفردية من الوباء، وثانيهما الأثر الاجتماعي بتقليص إمكانية عدوى أشخاص آخرين.  وحالما يتم الوصول إلى مستوى "مناعة القطيع" في المجتمع، فإن الفرد غير المطعّم يكون قد اكتسب حماية تامة تقريباً بفضل قيام الآخرين بالتطعيم.  لنأخذ مثالاً آخر أقل تجريداً.  عندما يقوم شخص ما بتحسين واجهة منزله وتبليط الرصيف وزراعة الأشجار والورود حوله، فإن هذا يؤدي إلى تحسن في نوعية حياته وحياة أسرته، إلى جانب ارتفاع في قيمة المنزل.  وهو ما يمكن، أيضاً، أن يؤدي إلى ارتفاع أثمان البيوت الأخرى المجاورة.  أي إن الاستثمار الخاص للفرد يترافق مع مكاسب مجانية "فائضة" تذهب إلى الأطراف التي لم تتكلف بالإنفاق أو بالجهد.  ويطلق على هذه اسم "المنافع الخارجية" وهي، أيضاً، ما يعرف باسم "الخوارجية الإيجابية".  أيضاً في هذه الحالة، حيث لا يمكن حصر المنافع التي تتولد من استهلاك سلعة معينة بالشخص الذي دفع مقابلها، فإن السوق التنافسي الحر لا يقود إلى الظرف الاجتماعي الأمثل.  والأمثلة على الخوارجية الإيجابية متعددة، ومن بين أهمها الخوارجية التي تتولد من مسار التعليم الفردي (الذي ينعكس إيجابياً أيضاً على المجتمع ككل) وجهود البحث والاختراعات (التي يصعب حصر الفوائد منها بمن يتكفل بالإنفاق عليها والاستثمار فيها).  والخوارجية الإيجابية هي الأساس النظري للدور الذي يتوجب على الدولة القيام به لجهة تمويل جهود البحث العلمي الأساسي، الذي يستفيد منه الجميع، ودعم أنشطة البحث والتطوير في القطاع الخاص.

من المفيد ملاحظة أن السلع العامة هي في الواقع حالة خاصة من الخوارجية الإيجابية.  هذا لأن الطرف الذي يقوم بإنتاج السلعة العامة لا يحصل وحده على المنفعة منها، بل إن الآخرين يستفيدون منها، أيضاً، دون أن يشاركوا في تكاليف إنتاجها.  تعرّف السلعة العامة بأنها السلعة التي تتصف بأنها: 1) غير الحصرية (non-excludable) أي التي لا يمكن حصر استخدامها فقط بمن قام بالدفع مقابلها.  و2) غير التزاحمية (non-rivalrious) بمعنى أن استهلاك أحد الأفراد لها لا يقلل من توفرها للآخرين.  البضائع العامة هي إذن بالتعريف نقيض البضائع الخاصة، التي تتصف بالحصرية والتزاحمية في آن معاً.  وهو ما يعني أن السوق الحر الخاص لن يقوم بإنتاجها على الرغم من وجود طلب عليها، نظراً لانعدام حافز الاستثمار فيها.  خدمات الدفاع الوطني وإجراءات الحماية من الزلازل والفيضانات والأوبئة هي أمثلة على البضائع العامة.  وكذلك الأفكار والإبداعات التي يستحيل تقييدها ببراءات الاختراع والتعليم الأساسي والأبحاث الأساسية هي أمثلة أخرى.

أخيراً، علينا التأكيد أن كُلاً من الخوارجية السلبية والإيجابية يمكن أن تظهر في نشاطات الإنتاج ونشاطات الاستهلاك، وأن الخوارجية السلبية تترافق مع إنتاج (واستهلاك) أعلى مما هو أمثل اجتماعياً، في حين تؤدي الخوارجية الإيجابية إلى استهلاك (وإنتاج) أدنى من الأمثل اجتماعياً.

 

الخوارجية وحقوق الملكية

يؤكد بعض الاقتصاديين على أن الخوارجية غالباً ما تظهر نتيجة عدم الدقة أو الغموض الذي يحيق بتحديد حقوق الملكية: لمن تعود ملكية الهواء النقي أو جدول الماء الجاري؟ ويقترح الاقتصادي الإنكليزي رونالد كواس (1910-2013) أن تدخل الدولة ليس ضرورياً؛ إذ إن السوق الحر يمكن أن يحقق فعالية تحصيص الموارد بظل وجود الخوارجية في حال توفر تعريف كامل لحقوق الملكية.  عندها يمكن للرابحين والخاسرين من الخوارجية الاتفاق معاً على مبالغ تعويض لتحييد آثار التكاليف والمنافع الخارجية.  ولكن من المتفق عليه أن الحل الذي جاءت به نظرية كواس (Coase Theorem) يتطلب توفر عدد من الشروط التي يصعب، إن لم يستحيل، تحققها عملياً.  اقتصادي آخر، الأمريكي كينيث أرو (Kenneth Arrow 1921-2017)، حاجج أيضاً أن تدخل الدولة ليس بالضرورة الحل الأفضل للخوارجية.  واقترح كبديل خلق أسواق يمكن أن يتم فيها بيع وشراء تصاريح التلوث.  مثلاً، يقوم الطرف المتضرر من التلوث بعرض تصاريح تباع بالمزاد وتبيح إطلاق مستوى معين من التلوث.  والسوق التنافسي لتصاريح التلوث هذه يمكن أن تضمن أمثلة تحصيص الموارد والقضاء على التكاليف الخارجية (أن تضمن تطابق الكلفة الحدية للتلوث مع المنفعة الحدية من التلوث).  ويجري حالياً تطبيق نمط قريب من هذا في العالم، حيث يتم بيع وشراء تصاريح إطلاق الغازات الملوثة بين الشركات المختلفة.  على أن الاقتصاديين مجمعون الآن على أن قوى السوق الحرة غير قادرة على حل مشاكل الخوارجية، وهناك إقرار عام بينهم على ضرورة وجود تدخل خارجي يقوم، بطريقة أو أخرى، بإصلاح الأسواق والحد من فشلها في مجال الخوارجية.

 

ضريبة بيجو

اقترح الاقتصادي الإنكليزي آرثر بيجو (1877-1959) في وقت مبكر فرض ضريبة على أي نشاط في السوق يتسبب بالخوارجية السلبية، بحيث يتم رفع التكاليف الخاصة لعمليات الإنتاج أو الاستهلاك إلى مستوى التكاليف الاجتماعية.  ويطلق الآن اسم "ضريبة بيجو" (Pigou Tax) على هذا النوع من الضرائب، التي ترمي الى تصحيح فشل السوق، وإلى تحقيق الوصول إلى الوضع الأمثل الاجتماعي.  وعلى السياق نفسه، يقترح الاقتصاديون توفير مساعدات للمنتجين أو المستهلكين في بعض الحالات التي يظهر فيها أن كافة المكاسب المتولدة من نشاط استهلاكي أو إنتاجي، لا يمكن حصرها بمن دفع مقابلها، وأن منافع المجتمع ككل من هذه النشاطات، أعلى من المكاسب والمنافع الفردية.

 

ضريبة أم قيود كمية؟

ولكن هناك حالات متعددة يصعب فيها تقدير القيمة النقدية للخسائر التي تلحق بالطرف الثالث، أو بتوزيع التكاليف على عدد كبير من المنتجين الذين يتسببون بالخوارجية.  لذلك، تقترح النظرية فرض قيود كمية وإجراءات رقابية على المنتجين عوضاً عن الضريبة.  وما زال الاقتصاديون منشغلين بدراسة المجالات التي تكون فيها واحدة من تلك الأداتين أكثر فعالية من الأخرى في الحد من الخوارجية.  كما تنشغل النظرية في اقتراح طرق مبتكرة لتحفيز المنتجين على أخذ تكاليف الخوارجية بعين الاعتبار، دون أن ينعكس هذا سلباً على فعالية الإنتاج وكميته، وعلى تشغيل اليد العاملة.