التعدي الأخلاقي والانتقاء المعاكس

التعدي الأخلاقي والانتقاء المعاكس

Moral Hazard and Adverse Selection

 

هذان المفهومان الاقتصاديان قريبان من بعضهما البعض، وهما يتولدان بسبب عدم تناظر المعلومات لدى طرفي التعاقد أو الصفقة؛ إذ حالما يمتلك أحد أطراف العقد معلومات ومعرفة لا يمتلكها الطرف الثاني، فهذا يسمح له بتحقيق مكاسب إضافية وغير عادلة على حساب الطرف الأول. وتعود أهمية هذين المفهومين إلى أن تفوق وامتياز آلية السوق الحر، على كل ما عداها من تنظيمات، يقوم على افتراض أن هناك معلومات كاملة وشاملة ومتعادلة لدى/ وبين العملاء المتعاقدين في كافة صفقات السوق. ويعني غياب التناظر في المعلومات، على ذلك، أن آلية السوق الحر تعجز في هذه الحالة عن تخصيص الموارد بشكل فعال، وأن التدخل في السوق يمكن أن يخلق ظرفاً اقتصادياً أفضل.

 

التعدي الأخلاقي

يحدث التعدي الأخلاقي عندما يلجأ أحد العملاء (أحد طرفيّ العقد) إلى السلوك المترافق مع المخاطرة العالية، اعتماداً على أن الطرف الآخر للعقد سوف يتحمل تكاليف الخسارة التي يمكن أن تنتج من ذلك. بكلمات أخرى، ينشأ التعدي الأخلاقي في الظرف الذي يمكن فيه لعميل اقتصادي أن يزيد من تعرضه لمخاطر الخسارة، في سعيه وراء الربح الأعلى، استناداً إلى أنه لن يتحمل كامل تكاليف الخسارة التي يمكن أن تنجم عن ذلك.

لعل أوضح أمثلة التعدي الأخلاقي تأتي من قطاع التأمين: إذا كانت شركة التأمين على استعداد لتعويض الثمن الكامل للدراجة الهوائية في حال سرقتها، فإن صاحب الدراجة لن يكون لديه حافز قوي لحمايتها من السرقة.

لنأخذ مثالاً آخر أكثر واقعية. عندما يقوم شخص بالتأمين على سيارته، ضد السرقة مثلاً، فإنه يمتلك معلومات أفضل من شركة التأمين حول درجة حرصه الشخصية للحيلولة دون سرقة السيارة؛ أي عن درجة المخاطرة التي سوف يأخذها، والتي يمكن أن تعرض سيارته للسرقة (مثلاً، هل سيقوم بإيقاف السيارة في أماكن معزولة غير مضاءة أو سوف يهمل إقفالها ... إلخ). ونظراً إلى أن شركة التأمين لديها معلومات ناقصة عن هذا الشخص، فهي تفترض أن حب المخاطرة لديه مطابق للمتوسط السائد بين كافة الأفراد الآخرين. وإذا ما تبين أن هذا الشخص أرعن محب للمخاطرة بأعلى من المتوسط العام، فهذا يعني أن سعر بوليصة التأمين التي حصل عليها أدنى من السعر التوازني العادل الذي كان يتوجب عليه دفعه، وأن شركة التأمين تحملت تكاليف إضافية بسبب نقص معلوماتها عن هذا العميل.

يلاحظ في هذا السياق أن مفهوم "التعدي الأخلاقي"، على الرغم من اسمه، لا علاقة له بالإدانة الأخلاقية. فهو يتعلق أساساً بغياب الفعالية التي تتولد من عدم تكافؤ المعلومات، ومن صعوبة حصر المخاطر وتحديد المسؤولية عنها.

مثال بارز آخر على التعدي الأخلاقي بالعلاقة، مع عدم تناظر المعلومات، والتنصل من تحمل تكاليف المخاطرة، وهو ما ظهر في الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة مع ما يعرف باسم "أزمة السندات العقارية الثانوية" (Subprime). اعتاد بعض المصارف على منح قروض للراغبين في شراء منازل، بأسعار مرتفعة بشكل مصطنع، ودون التمحيص الدقيق حول قدرة هذه العائلات على سداد ديونها في حال طرأ تبدل طفيف في الشروط الاقتصادية العامة أو الخاصة بالعائلات نفسها. ويعود السبب في ذلك إلى أن المصارف كانت سرعان ما تصدر سندات، تبيعها مباشرة للمستثمرين، لتمويل هذه القروض؛ أي إن المصارف كانت تستقطع أرباح الوساطة، وتقوم مباشرة بتحويل المخاطرة إلى حملة السندات، من دون أن يكون لدى هؤلاء المستثمرين المعلومات الكافية عن المخاطرة المترافقة مع تلك السندات. وما حصل في النهاية أن أسعار المنازل شهدت انحداراً كبيراً في العام 2010؛ حيث باتت قيمة الديون (سندات الدين) على بعض المنازل أعلى من القيمة السوقية لهذه المنازل.

يشتمل مفهوم التعدي الأخلاقي أيضاً على فكرة التشجيع، بشكل غير مباشر، على السلوك الأرعن. بهذا المعنى، فإن التعدي الأخلاقي يمكن أن يتولد من غياب الحافز لتجنب السلوك الذي يترافق مع مخاطر عالية. وظهر المثال الأبرز على هذا النوع من التعدي الأخلاقي في القطاع المصرفي، وحظي بتغطية واسعة خلال الأزمة المالية العالمية في العام 2008. إن ضخامة المصارف التجارية والاستثمارية في الدول الغربية، وتشعب نشاطاتها في كافة القطاعات الحيوية؛ يجعلها "عصية على الإفلاس" (Too Big to Fail)؛ بمعنى أن انهيارها يمكن أن يهدد كامل البنيان الاقتصادي في الدول التي تعمل بها. وهذا ما يضطر الحكومات في تلك الدول إلى الحيلولة دون انهيار هذه المصارف، والاستعداد لمدها بالسيولة الضرورية كلما دعت الحاجة (كما تم عملياً في كثير من الدول خلال الأزمة المالية العالمية 2007-2008). ويتمثل التعدي الأخلاقي، هنا، بأن رجال هذه المصارف لن يتورعوا عن أخذ مخاطر عالية؛ بهدف تحقيق أرباح أعلى، ويدفعهم في هذا علمهم أن الحكومات سوف تحول بينهم وبين تحمل كافة التكاليف التي يمكن أن تنجم عن المخاطر العالية التي يغامرون بأخذها، وهو ما حدث عملياً خلال الأزمة المالية.

 

الانتقاء العكسي

يحدث الانتقاء العكسي في الظرف الذي يمتلك فيه أحد طرفي الصفقة معلومات يجهلها الطرف الآخر؛ ما ينتج منه أن الطرف الذي يملك يمكنه أن يستغل ذلك ليحقق مكاسب على حساب الطرف الآخر. وينتج من عدم تناظر المعلومات بين الطرفين ارتفاع في التكلفة/ السعر، وانخفاض في الاستهلاك والفعالية مقارنة بما يمكن لسوق المعلومات التامة والمتوازنة أن يولده. أبسط الأمثلة على الانتقاء العكسي، هو مثال شركة التأمين التي تصدر بواليص تأمين على الحياة بسعر موحد ومرتفع. ونظراً إلى أن الشركة تجهل الوضع الصحي الحقيقي للمؤمنين، فإن السعر الموحد سيؤدي على الأرجح إلى أن الأشخاص ذوي الوضع الصحي المتقلقل سيصبحون غالبية المؤمنين لديها مقارنة بالأصحاء، وهو ما سينعكس سلباً على أرباحها. ويبدو هنا وكأن الشركة قد قامت بانتقاء الزبائن "الخطأ"، ومن هنا جاء تعبير "الانتقاء العكسي".

لنأخذ مثالاً آخر من القطاع المصرفي عن الانتقاء العكسي. من المعلوم أن حركة الأسعار صعوداً وهبوطاً هي الأداة التي تضمن التطابق بين العرض والطلب؛ إذ حالما يزيد الأول عن الثاني يهبط السعر ليعيد التطابق بينهما، والعكس بالعكس. ولكن يمكن في بعض الحالات التي يكون الطلب فيها أكبر من العرض، أن يؤدي ارتفاع السعر إلى خسائر للبائع؛ أي إن البائعين يمكن أن يستنكفوا عن رفع أسعار بضاعتهم/ خدمتهم، وهذا الظرف يترافق مع، وينتج من، غياب التناظر في المعلومات بين أطراف التعاقد.

عندما يقوم أحد المصارف بمنح قرض لشخص ما، فإن الطرف المدين بالصفقة يمكن أن يستغل امتلاكه لمعلومات لا يعرفها الطرف الدائن (مثلاً درجة ومستوى المخاطرة التي سيتم توظيف أموال القرض بها). الآن، إذا كان الطلب على القروض أعلى من العرض، وإذا ما قرر المصرف أن يرفع سعر الفائدة لإعادة التوازن بين الطلب والعرض، فإن هناك احتمالاً كبيراً أن يحدث التالي: سيتراجع الأشخاص الحريصون، الذين يستنكفون عن أخذ المخاطر العالية، عن طلب القروض؛ نظراً إلى أنها أصبحت مكلفة مقارنة بأرباحهم المتوقعة. في المقابل، فإن الأفراد محبي المخاطرة سوف يستمرون في طلب القروض؛ نظراً إلى أن استثماراتهم الأكثر مخاطرة يمكن أن تجلب أرباحاً مرتفعة في حال نجاحها. ما الحصيلة، إذاً، بالنسبة إلى المصرف؟ يمكن أن ينتهي المصرف إلى وضع أسوأ مما كان عليه قبل رفع سعر الفائدة؛ نظراً إلى أن القروض الأكثر مخاطرة في حقيبة الديون لديه سوف ترتفع على حساب الديون الآمنة؛ أي إنّ احتمالات الخسارة الكلية باتت للمصرف أعلى من السابق. تتمثل الفكرة، هنا، في أن رفع سعر الفائدة أدى إلى "انتقاء" الزبائن الأسوأ بالنسبة إلى المصرف، على حساب الزبائن الأفضل. وبسبب احتمال الانتقاء العكسي، تلجأ المصارف إلى طرق أخرى غير رفع سعر الفائدة عند منح القروض.

يأتي المثال الأشهر للانتقاء العكسي من سوق السيارات المستعملة. فمثلاً، افترض أن هناك شخصين يرغبان في بيع سيارتيهما المستعملتين والمتشابهتين في العمر والموديل والمظهر الخارجي. افترض أيضاً أن أولهما حريص ويعتني بسيارته بشكل فائق، في حين أن الثاني أقل حرصاً وعناية بالسيارة (هذه السيارة ستكون بحاجة إلى تصليح مكلف خلال فترة قصيرة، سيارة "حامضة" أو lemon حسب التعبير الأميركي). الأول يتوقع ويرغب في أن يحصل لقاء سيارته على مبلغ 1,000 دولار، والثاني يتوقع أن يحصل لقاء سيارته على 800 دولار فقط. الآن، المشتري في السوق ليست لديه المعلومات الكافية التي لدى البائعين، أيهما المالك الحريص وأيهما الأرعن. ولتعويض جهله بالمواصفات الحقيقية للسيارتين، من المتوقع أن يعرض شراء السيارة بالسعر الوسطي بينهما، 900 دولار. هذا يعني أن بائع السيارة "الحامضة" سوف يرضى ببيع سيارته، وسوف يحصل على مبلغ أعلى مما كان يتوقعه. أما صاحب السيارة الجيدة فسوف يستنكف عن البيع. وعلى هذا فإن نقص وعدم تكافؤ المعلومات بين البائعين والشارين يؤدي إلى سوق غير فعال؛ حيث السيارات "الحامضة" هي الغالبة (انتقاء عكسي)، والاستهلاك (التبادل) أقل من الأمثل، والسعر غير عادل.

 

بين التعدي والانتقاء

مجمل القول، إذاً، إن أفضلية السوق الحر على كافة الترتيبات الأخرى للتبادل تشترط، من بين ما تشترط، وجود معلومات تامة وكاملة ومتعادلة بين المتعاقدين، وبين طرفيّ الصفقة. وحالما يكون هناك اختلال في توفر المعلومات بين الأطراف، فإن السوق الحر يعجز عن تحقيق التوزيع والاستغلال الأمثل للموارد. وكما ذكرنا في البداية أن مفهومي التعدي الأخلاقي والانتقاء العكسي متقاربان، وكلاهما يتولدان من عدم تناظر المعلومات. ولكن يمكن للتمييز بينهما، الإشارة إلى أن التعدي الأخلاقي يتعلق غالباً بسلوك المشترين، ويحدث بعد توقيع العقد/ إجراء الصفقة، وغالباً ما ينتج من أن أحد طرفي الصفقة لم يدخل العقد بنية طيبة. في المقابل، فإن الانتقاء العكسي يرتبط أكثر بسلوك البائعين، وأن مسببات التحيز فيه تتواجد قبل توقيع العقد/ إجراء الصفقة.

هناك، بطبيعة الحال، عدد من الإجراءات التدخلية التي يمكن تطبيقها؛ لتحييد أو تخفيف أثر عدم كفاءة المعلومات، وعدم تناظرها. ومن بينها عمليات الاستقصاء (عن التاريخ الشخصي للمتعاقدين)، والاستجواب الذي ينتج منه استثناء بعض العملاء؛ أي استخدام معايير غير سعرية لانتقاء الزبائن. كما أن قوانين حماية المستهلك والتشريعات التي تضمن للمتعاقدين حق التراجع عن الصفقات وحق التعويض يمكن أن تساعد في هذا المجال.