الاقتصاد السلوكي

Behavioral Economics

 

الاقتصاد السلوكي هو المجال الذي تتضافر فيه نظريات وأبحاث علم النفس مع نظريات وأبحاث علم الاقتصاد، وبشكل خاص مع نظريات الاقتصاديين حول طرق وأهداف اتخاذ القرارات من قبل المشاركين في النشاط الاقتصادي. هو على ذلك، الفرع من علم الاقتصاد الذي يدرس تأثير علم النفس، بما يتضمنه من مستوى الإدراك، والثقافة، والظروف الاجتماعية والمشاعر، في القرارات الاقتصادية التي يتخذها الأفراد أو المؤسسات. ويرمي هذا الفرع إلى تبيان الفوارق بين القرارات التي يتخذها الأفراد فعلياً، في ظل قيود الإدراك الذاتية، والقرارات التي تفترض النظرية الاقتصادية اتخاذها على مبدأ العقلانية الموضوعية.

 

نظرية المنفعة المتوقعة (Expected Utility)

تفترض النظرية الاقتصادية، بشكل عام، أن الأفراد يتخذون قراراتهم بشكل عقلاني، وأنهم على وعي تام بحاجاتهم، وبكيفية إشباعها بأقل التكاليف الممكنة. كما أنهم ماديون وأنانيون يسعون أولاً وراء مصالحهم الذاتية. ولقد طور الاقتصادي الرياضي "جون فان نيومان"، في العام 1944، النظرية الأساسية المعتمدة لتفسير كيف يتخذ الأفراد (والمؤسسات أيضاً) قراراتهم الاقتصادية. وتعرف هذه النظرية باسم "المنفعة المتوقعة". وتقترح النظرية أن كل فرد لديه تفضيلات معينة تخص درجة المخاطرة التي يرضى بها عند اتخاذ قرارات تخص الاستهلاك، أو الاستثمار، أو غيرها من القرارات. فهناك من يكره المخاطرة، وعلى استعداد للتضحية بجزء من الدخل للتمتع بالأمان، مقارنة بأفراد على العكس من ذلك، يحبون المخاطرة في سبيل تحقيق دخل متوقع أعلى. إذاً، كل مستوى من مستويات الدخل المتوقع يترافق مع درجات منافع مختلفة للأفراد، اعتماداً على درجة تفضيل كل منهم للمخاطرة؛ أي عندما يتخذ الأفراد قرارات غير مؤكدة النتائج (مترافقة مع مخاطرة) فإن كلاً منهم يسعى إلى تعظيم منفعته المتوقعة؛ أي تعظيم دخله المتوقع في ضوء تفضيلاته الذاتية لدرجة حبه (أو كرهه) للمخاطرة.

تفترض هذه النظرية، من بين ما تفترض، أمرين مهمين: أولهما، أن الأفراد يهدفون دائماً وأبداً من قراراتهم إلى تعظيم (Maximization) أو أمثلة (Optimization) الكميات التي يرغبون في الحصول عليها؛ أي إن الأفراد يرغبون دائماً في أقصى ما يمكن الحصول عليه، في ظل المحددات التي يواجهونها، نافية بأن بعضهم يهدف فقط إلى الحصول على كميات معينة تشبع حاجاتهم. ثانيهما، وهذا أهم، يتصرف الأفراد دائماً بشكل عقلاني عند اتخاذ القرارات؛ إذ حالما يتم التوصل إلى تفضيلات كل فرد بالعلاقة مع المخاطرة، تفترض النظرية أن هذا الفرد يقوم دائماً بتطبيق هذه التفضيلات في كافة قراراته، وبشكل منتظم وسلس. ونقد هاتين الفرضيتين كان المدخل الذي تأسس عليه الاقتصاد السلوكي.

 

الاقتصاد السلوكي

يسعى الاقتصاد السلوكي إلى دراسة كيفية اتخاذ القرارات المحفوفة بالمخاطرة وعدم التأكد، وإلى تحليل التحيز الذي يؤثر في القرارات التي يتخذها المشاركون في النشاط الاقتصادي. ويتم هذا عبر تطبيق مناهج علم النفس، وأدواته، لتصوير وتفسير التباين بين قرارات الأفراد الفعلية والقرارات، حسب فرضيات النظرية الاقتصادية النيوكلاسيكية. ولقد تم تطوير مفهومين أساسيين باتا حجر الأساس في الاقتصاد السلوكي:

  • التحيز الذهني (Cognative Biase): هو نمط منهجي للانحراف المنتظم عن العقلانية عند اتخاذ القرارات. ويتولد هذا من قيام الأفراد بخلق الحقائق الذاتية الخاصة بهم، والمؤسسة على فهمهم الخاص للمعطيات، وليس على الحقائق الموضوعية. وهذا الانحراف عن الحقائق غالباً ما يحكم سلوك الأفراد وقراراتهم.
  • العقلانية المقيدة (Bounded Rationality): عندما يقوم الأفراد باتخاذ قرارات، فإن عقلانيتهم تكون مقيدة بحدود معرفتهم، وحدود الوقت المتاح لهم. ويسلك الأفراد عند اتخاذ القرارات طرق استنتاج مختصرة، وهو ما يمكن أن يؤدي بهم إلى قرارات أقل من المثلى. كما أن الأفراد غالباً ما يسعون إلى تحقيق مستوى معين من إرضاء الحاجات، وليس بالضرورة إلى الأمثلة والتعظيم، كما تفترض النظرية النيوكلاسيكية.

 

نظرية الفرص (Prospect Theory)

هذه أهم نظرية في الاقتصاد السلوكي وأكثرها شهرة. ولقد نال أحد واضعيها، دانيال كاهنيمان، وهو عالم نفس، جائزة نوبل في الاقتصاد في العام 2022. توصلت النظرية إلى أن هناك أنماطاً متكررة من الانحياز عن العقلانية يقوم بها معظم البشر عند اتخاذ القرارات. وتم التوصل إلى هذ الانحرافات عبر إجراء عدد كبير جداً من التجارب على مجموعات مختلفة من الناس. وتوصلت النظرية إلى عدد من أنماط الانحياز والتحيز التي تطبع سلوك غالبية الأفراد، أهمها ما يأتي:

  • تأثير اليقين (The Certainty Effect): غالباً ما يبالغ الأفراد في تفضيلهم لما هو مؤكد، حتى إن كان على حساب المكاسب الممكنة. مثلاً، زيادة احتمال الربح من 50% إلى 60% تترك أثراً عاطفياً/نفسياً في قرارات الأفراد أضعف من زيادة احتمال الربح من 95% إلى 100%؛ أي إن للخيار الأول قوة تحفيز أدنى من قوة تحفيز الثاني على ما يقرره الأفراد، علماً أن الأول ينص على زيادة في احتمال الربح بمقدار 10%، وهو ضعف الزيادة في الخيار الثاني. لنأخذ مثالاً آخر لتوضيح الفكرة. افترض أننا طلبنا من شخص ما أن يلعب لعبة "الروليت الروسية" بمسدس ذي مخزن دوار يتسع لـ 6 رصاصات، وأننا عرضنا على هذا الشخص الخيار التالي: كم هو المبلغ الذي أنت على استعداد لدفعه لقاء تخفيض عدد الرصاصات في مخزن المسدس من 4 إلى 3 مقارنة بالمبلغ الذي تدفعه لتخفيض عدد الرصاصات من 1 إلى الصفر؟ يعبر معظم الناس عن استعدادهم لدفع مبلغ أكبر بكثير للخيار الثاني مقارنة بالأول. هذا على الرغم من أن تخفيض احتمال الموت متكافئ (بمقدار 6/1) في الخيارين. يتولد هذا الانحياز، حسب نظرية "الفرص" من تفضيل البشر للمطلق، ومن السحر الخاص لنسبة 100%. وهو يعكس عدم القدرة على فهم معنى الاحتمالات الممكنة؛ ما يجعل التخلص كلياً من المخاطرة خياراً أسلم وأدعى للرضا من مجرد تخفيض الاحتمال.
  • تأثير العزل (Isolation Effect): تمت ملاحظة أنه عند عرض عدد من البدائل المتشابهة على الأفراد مع بديل واحد مميز عنها، فإن هذا الأخير هو الذي يحفز الانتباه، ويبقى في الذاكرة لمدة أطول. وهذا ما يتم استغلاله في الإعلانات؛ إذ إن النص المميز في الإعلان (سواء باللون أو حجم الحرف أو غيره) هو ما يسترعي الانتباه. يعني هذا التأثير أن الأفراد يركزون على الفروق بين البدائل المتاحة عوضاً عن العناصر المشتركة، وأنهم يعطون أهمية أكبر للاختلاف، وهو ما يسبب إهمال عناصر مهمة عند اتخاذ القرارات.
  • نقطة الارتكاز (Reference Point): غالباً ما يقرر الأفراد مبدئياً كمية أو قيمة معينة يعدّونها مرضية لما يرغبون فيه، وهم ينظرون، بالتالي، إلى أية كمية أو قيمة أعلى يحصلون عليها بمنزلة ربح، وأقل بمنزلة خسارة. وهذا، طبعاً، يختلف كلياً عن مبدأ التعظيم والأمثلية التي تفترضه النظرية النيوكلاسيكية.
  • تأثير التملك (Endowment Effect): لدى الأفراد نزعة لإعطاء قيمة عالية للأشياء التي يمتلكونها، قيمة أعلى من قيمة استبدالها وشرائها من السوق. ولهذا تأثير على الحد من التجارة والتبادل.
  • تأثير الصياغة (Framing Effect): يتعلق التأثير هنا بأن كيفية صياغة المشكلة/السؤال تؤثر في طبيعة القرار الذي يتخذه الأفراد.
  • النفور من الخسارة (Loss Aversion): هذا ربما هو أهم ما جاءت به نظرية "الفرص". ويتعلق الأمر هنا بملاحظة أن الأفراد أكثر استعداداً لقبول المخاطرة لتجنب الخسارة من قبول المخاطرة للحصول على المكسب. ويمكن التعبير عن هذا التأثير بالتجربة التالية: عندما يخيّر الفرد بين أخذ 450 دولاراً مؤكدة وبين الدخول في مقامرة مع احتمال 50% لربح 1,000 دولار (و50% للحصول على لا شيء)، فإن معظم الناس يختارون أخذ 450، علماً أن المقامرة تعطيهم ربحاً أعلى يعادل 500 دولار بالمتوسط. هذا يعني أن الأفراد في هذه الحالة يكرهون المخاطرة. الآن، عند تكرار التجربة، ولكن بالعلاقة مع خسارة 450 أو الدخول بمقامرة تتضمن احتمال 50% لخسارة 1,000، فإن أغلب الأفراد يختارون المقامرة؛ أي إن الأفراد باتوا في هذه الحالة محبين للمخاطرة. النتيجة باختصار، إذًا، أن معظم الناس يتجنبون المخاطرة في حالة الربح ويقبلون بها في حال الخسارة. وهذا يعني أن منحنى تفضيلات الفرد بالعلاقة مع المخاطرة (دالة المنفعة) غير منتظم، فهو محدب في حالة الربح (كره المخاطرة) ومقعر في حالة الخسارة (حب المخاطرة). وهذا بالطبع يتعارض مع دوال منفعة الأفراد المنتظمة التي تفترضها النظرية الاقتصادية النيوكلاسيكية.

 

الاقتصاد السلوكي في التطبيق

تحلل نظريات الاقتصاد السلوكي الكيفية التي يتخذ بها الأفراد القرارات المحفوفة بالمخاطرة. ولقد وفرت النظرية أجوبة مقنعة لبعض الظواهر التي لم تجد حلولاً مرضية في النظرية الاقتصادية النيوكلاسيكية، مثل منحنى عرض العمل التراجعي، ومرونة الأسعار غير المتناظرة.

من ناحية أخرى، وفرت النظرية معلومات بالغة الأهمية عن الطرق الأكثر فعالية لتحفيز الأفراد والتأثير في القرارات التي يتخذونها. ويجري الآن تطبيق عدد من اقتراحات النظرية في حملات الإعلان والتسويق، وفي جهود تحفيز وتحوير الرأي العام على الإنترنت. على سبيل المثال، يمكن الاستنتاج من تجارب الاقتصاد السلوكي أن حملة البيع التي شعارها "اشتر 4 قطع وادفع ثمن 3"، لها تأثير أقل في المتسوقين من شعار "اشتر 3 قطع وخذ الرابعة مجاناً". كما أن اقتراح النظرية بأن الخسائر تترك أثراً عاطفياً/نفسياً أقوى في الأفراد من الأرباح يعني أنه إذا ما عرض على شخص خيار الاستثمار في مشروعين استثماريين متعادلين، فسوف يختار المشروع الذي يُعرض عليه بصيغة الربح المتوقع، وليس بصيغة الخسارة المحتملة.

 أخيراً، ربما يجدر التنويه هنا بذكاء وحنكة الاقتصاديين، الذين تمكنوا من احتواء النقد الجذري الذي جاء به علماء النفس، والذي كان يهدد جوهر نماذجهم القائمة على فرض العقلانية؛ إذ إنهم تمكنوا من جعل هذا النقد، والمساهمة التي قدمها التحليل النفسي في مجال اتخاذ القرارات، جزءاً من النظرية الاقتصادية ذاتها.