الدخل الأساسي الموحد لكافة المواطنين

الدخل الأساسي الموحد لكافة المواطنين

( (Universal Basic Income, UBI

 

عادت الحياة مجدداً، وبقوّة، إلى فكرة قديمة تقول بأنّ على الحكومة توفير دخل غير مشروط، وبشكل دوري، لكل مواطن بالغ في الدولة، وأن يتم تمويل هذه التحويلات من أرباح مؤسسات القطاع العام أو من حصيلة الضرائب. تعود فكرة "راتب المواطن"، أو الدخل الأساسي الموحد إلى بضعة قرون خلت. وكان أنصارها، من المثاليين والاشتراكيين الطوباويين، يرمون إلى إعادة توزيع الريع الزراعي الذي يحصله ملاك الأراضي بهدف القضاء على الفقر المدقع وعلى الشرور التي يجلبها الفقر معه، مثل الجرائم والإدمان والتوتر الاجتماعي والسياسي.

على أنّ الدعوات المعاصرة لـ "راتب المواطن" ترتكز على مبررات وغايات مختلفة عن الدعوات السابقة. إذ تقوم الآن على أساس الآثار التي خلفها التطور التكنولوجي المعاصر على سوق العمل، وعلى التطور الذي طرأ على مفهوم العمل وعلى دور العمل في النظام الاقتصادي وفي حياة البشر. تستند الدعوات المعاصرة إلى فكرة تقول باختصار أنّ التكنولوجيا الحديثة باتت، ولأول مرة في التاريخ، تدمر فرص عمل أكثر مما تخلق. وأنّ مسار التدمير هذا سيتعمق أكثر فأكثر مع صعود "الذكاء الاصطناعي" (Artificial Intelligence) والمكائن والأدوات ذاتية الإدراك (Cognitive Function). لقد فصلت التكنولوجيا المعاصرة بين النمو الاقتصادي وبين خلق فرص عمل. ببساطة، يقول أنصار "راتب المواطن" أنّه لن يوجد هناك في المستقبل فرص عمل كافية للجميع. تكنولوجيا القرنين الماضيين قضت على العمل العضلي والعمل الروتيني اليدوي، أما التكنولوجيا المعاصرة فإنّها هددت، وهي على أبواب مزيد من التهديد، لفرص العمل الفكري والعقلي.

تؤكد الدراسات والتوقعات المستفيضة هذا التوجه الجديد في اقتصاديات الدول المتقدمة. إنّ مجرد تطوير السيارات ذاتية القيادة سوف يؤدي إلى تقويض فرص عمل 3.5 مليون سائق شاحنة في الولايات المتحدة. وتقول دراسة من جامعة أوكسفورد وشركة "ماكنزي" أنّ التكنولوجيا المستقبلية يمكن أن تقضي على 47% من فرص العمل القائمة حالياً في أمريكا. وفي دولة صغيرة مثل الدنمارك، يتوقع أن تؤدي التكنولوجيا إلى القضاء على 800 ألف فرصة عمل في العقد القادم، أي ما يعادل ثلث إجمالي فرص العمل في البلاد. ويقول تقرير من البيت الأبيض إلى الكونغرس أنّ هناك احتمال بمقدار 83% أنّ العمال الذين تقل أجورهم عن 20 دولار بالساعة في 2010 سوف يفقدون أعمالهم لصالح الآلة في المستقبل، وأنّ الاحتمال يبلغ 31% لمن يحصلون على أجر يبلغ 40 دولار بالساعة. " راتب المواطن" هو الرد المناسب على عالم تلتهم التكنولوجيا الحديثة فيه أماكن العمل واحداً بعد الآخر.

يحاجج أنصار " راتب المواطن" أنّ التطور التكنولوجي المعاصر فصل بين النمو والعمل، وأن لهذا الفصل تبعات اجتماعية واقتصادية وفلسفية أيضاً. إذ طالما أنّ الاقتصاد لم يعد قادر على، ولا بحاجة إلى، خلق وظائف عمل للجميع، فإنّ تعريف العمل بأنّه "ضروري للحياة" و"يعطي معنى للحياة" ...إلخ لم يعد صحيحاً. لقد بات من الضروري تطوير مفاهيم جديدة: العمل جيد لمن يرغب القيام به، وهو ليس شرط البقاء، أي شرط القيام بالاستهلاك، ولا يجب أن يكون محددا للمركز الاجتماعي. التكنولوجيا المعاصرة نقلت العمل من خانة "الضرورة" إلى خانة "الاختيار". إنّ الانفصال الذي حدث بين النمو الاقتصادي والعمل البشري يتطلب بالضرورة خلق قوة شرائية منفصلة أيضاً ومستقلة عن العمل. وهذا تماماً ما يوفره "الدخل الأساسي الموحد"، الدخل الذي ليس هناك شروط للحصول عليه ولا شروط على إنفاقه.

 

استفتاء وتجارب عملية

تحظى فكرة "راتب المواطن" الآن باهتمام كبير في الوسط الأكاديمي والسياسي، ولقد تمكّن أنصار الفكرة في سويسرا من جمع 125 ألف توقيع لإجراء استفتاء عن اقتراح ينص على اقحام "راتب المواطن" في الدستور الفيدرالي. ونص الاقتراح على أن يحصل كل مواطن سويسري على مبلغ شهري مقطوع وغير مشروط بمقدار 2,500 فرنك سويسري لكل بالغ و675 فرنك لكل طفل. وجرى التصويت على الاقتراح في استفتاء شعبي في أكتوبر 2013، ولكنّ 77% من المواطنين صوتوا ضد الاقتراح. ويعتقد مناصروا الفكرة أنّ الاقتراح فشل بسبب ارتفاع المبلغ الأولي الذي تم اقتراحه، وأنّ راتب شهري في حدود ألف دولار سيحظى بقبول أكثر، كما أنّه سيكون في نطاق الممكن اقتصادياً. ولكن فشل الاقتراح في سويسرا لم يحل دون أن يتضمن البرنامج الانتخابي للمرشح الاشتراكي للرئاسة الفرنسية، بينويت هامون، فكرة منح 750 يورو لكل مواطن فرنسي، على أن يبدأ تطبيق هذا بالتدريج بدءاً من العام 2022.

يتمحور النقاش الدائر حالياً بين أنصار ومناهضي "راتب المواطن" حول أمرين أساسيين.

  • ما هو تأثير المبلغ المقطوع الذي سيحصل عليه كل فرد على حوافز العمل؟ هل سيؤدي الراتب إلى عزوف الناس كلياً عن العمل؟ إنّ معظم الاقتراحات، بما فيها الأكثر راديكالية، لا تعرض "راتب المواطن" على أنّه بديل للعمل، بل هو مكمّل للأجر الذي يأتي من العمل. ولكنّه راتب غير مشروط وهو ما يسمح للبشر باستخدام الوقت بشكل ذو معنى لهم، مما سيزيد سعادتهم ويرفع من العوائد الاجتماعية. إذ أنّ الحافز الاقتصادي ليس الحافز الوحيد الذي يدفع البشر إلى العمل. وتجري الآن دراسات تجريبية في أماكن مختلفة من العالم لتحليل أثر توفّر الدخل على حافز العمل. ومن بين دراسة في فنلندا سوف تنطلق مطلع 2017، حيث سيتم منح مبلغ شهري بقيمة 560 يورو إلى كل فرد من بين 2,000 عاطل عن العمل، وستقوم الدراسة بمتابعة رد فعل هؤلاء تجاه سوق العمل، وهل سيدفعهم هذا إلى الاستمرار بالبحث عن أعمال والسعي لزيادة دخلهم أم الانسحاب من سوق العمل مقارنة بعاطلين آخرين لن يحصلوا على مبلغ مشابه، لا شكّ أنّ مستوى "راتب المواطن" هو أحد المحددات التي يمكن أن تؤثّر على حوافز العمل. ولكنّ أساس الأمر هنا، تبعاً لأنصار الاقتراح، أنّ توفير حد أدنى من الدخل سوف يحرر البشر من "عبودية العمل" ويجعلهم يختارون القيام بالأعمال التي يرغبون بها فقط، كما سوف يشجع الإبداع والمبادرات والنشاطات التي قد لا تكون مجدية مادياً ولكن مجدية معنوياً للقائمين بها.
  • إنّ التكاليف المادية لاقتراح "راتب المواطن" يمكن أن تكون باهظة وغير قابلة للتحمل. من الواضح أن التكاليف الكلية تعتمد على مستوى الراتب الفردي الذي يتم اقتراحه. وهناك الآن تقديرات مختلفة للتكاليف بعضها باهظ فعلاً (امتصاص كامل إيراد الضرائب الفيدرالية في الولايات المتحدة) وبعضها يقع في نطاق الممكن (كما في حالة فنلندا مثلا).  وبالعلاقة مع التكاليف يدور النقاش أيضاً حول ما إذا كان تمويل "راتب المواطن" يجب أن يتم عبر توزيع الدخل (تمويل من إيراد المشاريع العامّة أو النظام الضريبي) أو عبر إعادة توزيع الدخل (أي تمويل من فرض ضرائب معينة على ذوي الدخل المرتفع). ومن الأمثلة على ضرائب إعادة توزيع الدخل الضريبية التي تُعرف باسم "ضريبة توبن" (ضريبة ضئيلة على تحويل العملات والمضاربة بالعملات). ويحاجج أنصار مدرسة "راتب المواطن" أنّ موضوع التكاليف يجب التعامل معه من منظور كلي. إذ أنّ "راتب المواطن" ضروري لخلق طاقة شرائية، طلب فعلي، ولامتصاص الإنتاج. إذ بغياب القوّة الشرائية لن يكون هناك إنتاج. من ناحية ثانية، فإنّ التكنولوجيا المعاصرة التي فصلت بين الإنتاج والتشغيل ترافقت أيضاً مع زيادات كبيرة في أرباح رأس المال، وهو ما يبرر تحمّل رأس المال لجزء كبير من تكاليف "راتب المواطن". أخيراً، يؤكّد أنصار الفكرة على أنّ "راتب المواطن" سيؤدّي إلى وفورات اقتصادية كبيرة، مثل تقليص تركّز السكان في المدن، وانخفاض أسعار الأراضي والإيجارات وتقليص حركة المواصلات وغيرها الكثير يتوجب أخذه بالاعتبار عند حساب تكاليف الربح والخسارة.
  •  

راتب المواطن في الدول النامية

لا تقتصر الدعوات لتبني راتب المواطن على الدول المتطورة بل تمتد أيضا الى الدول الفقيرة النامية. على أن المبرر الأهم هنا هو الدور الايجابي لراتب المواطن في تقليص الفقر ومحاربة الفساد والاستغناء عن الهياكل البيروقراطية وبرامج الدعم المتشعبة. وترتكز الدعوة إلى منح مبلغ مقطوع وغير مشروط لكل مواطن نظراً لأنّ برامج دعم الدخل القائمة حاليا لاتصل فعليا إلى كل الفقراء. ولا شك أن من بين الأسباب وراء ذلك غياب الاحصائيات الكافية واتساع القطاع غير المنظم وانتشار السكان في الأرياف، فضلا عن تعقيدات وتعدد وتراكب برامج الدعم القائمة. وكل هذه يمكن التقليل من أثرها عبر تبني الراتب المقطوع والموحد. يوجد في الهند حاليا أكثر من 950 برنامج تديرها الحكومة المركزية لدعم دخل الفقراء، هذا الى جانب البرامج من حكومات الولايات. ولقد طرحت الحكومة مؤخرا فكرة الاستعاضة عن كافة هذه البرامج ببرنامج موحد يقضي بدفع 9 دولارات شهريا لكل مواطن في الهند. وقدر خبراء الحكومة أن تكلفة هذا البرنامج الموحد ستبلغ 6-7% من الناتج المحلي للبلاد مقارنة مع 5% هي تكاليف الـ 950 برنامج المطبقة حاليا. ولكن في حين أن خمس سكان الهند مازالوا يعيشون تحت خط الفقر بظل البرامج الحالية فان نسبة الفقراء سوف تنخفض الى أقل من 0.5% عند تطبيق معاش المواطن الموحد.

من بين التطبيقات التجريبية البارزة لفكرة "راتب المواطن" في العالم الثالث تجربة جرت في العام 2008 ولمدة سنتين في منطقة نائية في ناميبيا في جنوب افريقيا. وتضمنت التجربة منح كل مواطن في تلك المنطقة (930 شخص) راتباً شهرياً مقطوعاً بقيمة ما يعادل 12.4 دولار أمريكي. وتذكر تقارير تقييم التجربة أنّ النتائج كانت إيجابية وفوق كافة التوقعات. إذ لم يطرأ فقط تحسّن ملحوظ على الشروط الحياتية للسكان (والأطفال بشكل خاص) ولكن أيضاً حدث تطوّر إيجابي على حافز البحث عن عمل مأجور.

 

ماذا عن "راتب المواطن" في فلسطين؟

يُستفاد من مسح قام به الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أنّ أكثر من 56% من العائلات التي حصلت على مساعدات اجتماعية في الأراضي الفلسطينية في العام 2006 كانت عائلات لا تستحق الدعم، في الوقت ذاته أنّ أكثر من 28% من العائلات التي تستحق الدعم لم تحصل عليه. هذا التسرب الكبير نسبياً، فضلاً عن تعدد برامج دعم الفقراء وتعدد الجهات التي تتولى إدارة برامج التحويلات الاجتماعية تشكّل مبرراً كافياً لدراسة امكانية التطبيق العملي لفكرة "راتب المواطن" في فلسطين ولتقييم فرص هذا المنهج في توفير حلول للمشاكل المترافقة مع الأنظمة الحالية.

(نشرت في المراقب الإقتصادي، العدد 47، سنة 2017).