المسؤولية الاجتماعية للشركات
المسؤولية الاجتماعية للشركات
(Corporate Social Responsibility, CSR)
يعرف "مجلس الأعمال العالمي للتنمية المستدامة" المسؤولية الاجتماعية للشركات على أنها "الالتزام الدائم من قبل شركات الأعمال بالتصرف أخلاقياً والمساهمة في تحقيق التنمية الاقتصادية، والعمل على تحسين الظروف الحياتية للقوى العاملة وعائلاتهم، والمجتمع المحلي والمجتمع ككل." أما تعريف المفوضية الأوروبية فيقول أنّ المسؤولية الاجتماعية للشركات هي الإطار الذي تقرر من خلاله الشركات المساهمة طوعا لتحقيق مجتمع أفضل وبيئة أنظف.
على الرغم من أن مساهمة أصحاب الأعمال في تمويل ودعم النشاطات الاجتماعية والفنية والخيرية تعود إلى عدة قرون خلت، إلا أن هذه الممارسات كانت في معظم الحالات تعبيرا عن المشاعر الأخلاقية للأفراد الأغنياء، ذلك لأن نشأة وتطور المفهوم الحديث لمسؤولية الشركات الاجتماعية حدث فقط في العقود الخمسة الأخيرة. ولقد لعب ازدياد قوة المنظمات غير الحكومية ومطالبتها للشركات العابرة للحدود بالالتزام بالشروط البيئية والإنسانية في الدول المضيفة، حتى وان كانت القوانين في تلك الدول لا تفرض عليها هذا، دورا كبيرا في دفع تلك الشركات للالتزام بمعايير السلوك الاجتماعي الأفضل.
الرأي الآخر
تشير المسؤولية الاجتماعية اذن الى مسؤولية الشركات والتزامها بتبني السياسات واتخاذ القرارات وتحمل تكاليف الإجراءات التي تعتبر مرغوبة وقريبة من أهداف وقيم المجتمع. ولكن عدد من الاقتصاديين، وعلى رأسهم الاقتصادي المعروف ميلتون فريدمان، يعترضون على أن يكون للشركات مسؤوليات تجاه المجتمع: "الأفراد فقط تقع عليهم مسؤولية اجتماعية أما الشركة فهي شخصية اعتبارية لا تتحمل سوى مسؤوليات اعتبارية". ويؤكد فريدمان أن المسؤولية الاجتماعية الوحيدة للشركات هي تعظيم الربح، وأن القيام بأعمال لصالح المجتمع والبيئة يتعارض مع الهدف الأساسي للشركات والأعمال، وهو تعظيم الأرباح. ولكن هذه الآراء لا يعتد بها كثيرا الآن. ذلك لأنّ مساهمة الشركات التي ترمي الى تقديم منافع إضافية للمجتمع هي مستقلة عن المتطلبات الاقتصادية والقانونية لعملها. ويعود أساس الدعوة إلى أنّ الشركات تستفيد من موارد وخدمات متعددة يوفرها المجتمع لها دون مقابل مباشر، مثل البنية التحتية وتأهيل القوة العاملة والاستقرار الاجتماعي والسياسي وغيرها. من ناحية أخرى فان المساهمة الاجتماعية للشركات غالبا ما تنعكس ايجابيا على سمعتها عند عملائها وعند المستهلكين، وهو ما يترجم أيضا في زيادة مبيعاتها وأرباحها.
غموض التعريف
بعد مرور أكثر من خمسة عقود على ظهور فكرة المسؤولية الاجتماعية للشركات مازال تعريف المفهوم غير محدد بشكل قاطع بحيث يمكن أن يكتسب قوة انفاذ، وطنية أو دولية. كذلك مازال المفهوم موضع جدل، اذ في حين يعتقد البعض أن على الشركات تخصيص مبالغ مالية من إجمالي أرباحها تذهب لتمويل مشاريع مجتمعية ذات أثر تنموي ايجابي، وهو ما يعرف في الأدبيات باسم "البعد السياسي" للمسؤولية الاجتماعية، يرى آخرون أن برامج المسؤولية الاجتماعية تهدف حصراً إلى تحسين سمعة رأس المال والدعاية لغرض زيادة الأرباح، وهو ما يعرف باسم "البعد الأدائي/الإداري". وفي الحالة الأخيرة، فإن إنفاق الشركات لتحقيق الأهداف الترويجية والتسويقية يؤدي أيضا الى آثارا اجتماعية ايجابية، ولكن هذه الآثار تكون جانبية وذات تبعات محدودة غالبا.
أوروبا مقابل أمريكا
تطور مفهوم المسؤولية الاجتماعية في سياقين مختلفين، السياق الأوروبي مقابل السياق الأمريكي. اذ أن اختلاف الظروف والفلسفة الاقتصادية أدى إلى تفسيرات مختلفة حول ما يمكن أن تكون الشركات مسؤولة عنه وقادرة على توفيره. يتم التركيز في السياق الأمريكي على الالتزام الأخلاقي و"الخيري" للشركات لتوفير خدمات الرعاية الاجتماعية الأساسية والرعاية للعاطلين والفقراء. ولكن توفير هذه الخدمات هو من مسؤولية الدولة في أنظمة الرفاه الأوروبية الغربية، ولذلك فان مجال النشاط الاجتماعي للشركات الأوروبية يختلف عن المجال المتوقع لعمل الشركات الأمريكية. ولقد تولت الحكومات الأوروبية خلال العقد الأخير مهام تحفيز وقيادة المسؤولية الاجتماعية للشركات. كما تبنت، وعلى نطاق واسع، سياسات عامة لتشجيع الشركات على التصرف بطريقة مسؤولة ومستدامة. وهذا على العكس من الولايات المتحدة، حيث السياسات في هذا المجال ما تزال محدودة. ويعود هذا الى أن الشركات في أوروبا أكثر تقبلاً للعمل مع الحكومة لتحقيق أهداف تتعلق بالبيئة وظروف العمل، كما انها معتادة على العمل في بيئة مؤطرة بقوانين متشددة.
المسؤولية الاجتماعية على المستوى الدولي
مع صعود العولمة والتحرير التجاري في أواخر القرن الماضي، حقق مفهوم المسؤولية الاجتماعية رواجاً وانتشاراً متزايدا بين الشركات ورجال الأعمال على المستوى الدولي. وقامت الأمم المتحدة في العام 1999 بتأسيس مبادرة "العقد العالمي" (UN Global Compact) ترمي الى "تشجيع الأعمال في العالم على تبني السياسات المستدامة والمسؤولة اجتماعيا، وتشجيع اصدار التقارير عنها". ويوصف العقد العالمي بأنه أكبر مبادرة للمسؤولية الاجتماعية للشركات، من خلال الالتزام الطوعي بعشرة مبادئ تتعلق بحقوق الإنسان، حقوق العمال، وضمان عدم التمييز ضد النساء، ومنع عمالة الأطفال، وحماية البيئة، ومحاربة الفساد. ويبلغ عدد الشركات التي التزمت بمبادئ المبادرة 9,819 شركة من 164 دولة مختلفة في أنحاء العالم. وقامت هذه الشركات بإصدار أكثر من 56,500 تقرير عن نشاطاتها وانجازاتها في مجال تطبيق المبادئ العشرة للمبادرة.
تجربة الصين والهند: قيادة الدولة والزامية القانون
عانت الشركات الصينية في العقد الماضي من فضائح متعددة تتعلق بالأغذية الفاسدة والمباني المتهالكة والاستغلال الجائر للعمال والتلوث الصناعي. وأجبرت هذه الفضائح الحكومة الصينية على أخذ زمام المبادرة لصياغة وتحفيز التزام الشركات بالمسؤوليات الاجتماعية. وهذا التوجه مرتبط بأن ملكية عدد من الشركات، التي تشكل العمود الفقري للاقتصاد الصيني، تعود للدولة، وهو ما جعل صياغة المسؤولية الاجتماعية للشركات وتطبيقها في الصين يختلف عن النموذج الطوعي للمسؤولية الاجتماعية في الدول الغربية. فالحكومة تفرض الالتزام بالمسؤولية الاجتماعية وتضع مؤشرات لقياس مدى التزام الشركات بها.
أما بالنسبة للهند فلقد قامت الحكومة بفرض مبادئ المسؤولية الاجتماعية في قانون الشركات في العام 2013. وكانت بذلك الدولة الأولى في العالم التي قوننت المسؤولية الاجتماعية للشركات. ألزم القانون الشركات التي تزيد أرباحها السنوية عن مليون دولار بتخصيص 2% من صافي أرباحها على الأقل للإنفاق على للمسؤولية الاجتماعية. وحدد القانون مجالات الإنفاق بالتعليم ومحاربة الجوع والفقر ونشر المساواة بين الذكور والإناث، اضافة الى مجالات الاستدامة البيئية وحماية التراث الوطني والمساهمة في الصناديق الحكومية للتنمية الريفية. ولقد ازداد إنفاق الشركات الهندية على المسؤولية الاجتماعية من نحو 335 مليون باوند استرليني عام 2013 إلى2,630 مليون بعد إقرار القانون. لكن النظام مازال يعاني من قصور في التطبيق ومن تهرب بعض الشركات من التزاماتها القانونية ومن التحايل كما تؤكد بعض التقارير الصحفية الاستقصائية.
المسؤولية الاجتماعية للشركات في فلسطين: جهد مشترك أم نشاطات فردية؟
تتبنى معظم الشركات الفلسطينية المدرجة في السوق المالي برامج للمسؤولية الاجتماعية. وفي حين حددت بعض الشركات مجالات محددة لتدخلها، تركت شركات أخرى الباب مفتوحاً أمام المجتمع المحلي لتقديم طلبات للحصول على دعم. يظهر من تقرير الدور المجتمعي للبنوك (2107) أن مساهمات المسؤولية الاجتماعية للبنوك تركزت في مجالات التعليم، الصحة والإغاثة كما يوضح الجدول 1.
المجال |
مبلغ المساهمة (دولار) |
عدد الشراكات المؤسساتية |
التعليم |
1,589,829 |
208 |
الصحة |
1,235,189 |
43 |
الإغاثة |
1,160,836 |
42 |
عقد في العام 2015 "مؤتمر المسؤولية الاجتماعية الأول" الذي دعت له سلطة النقد الفلسطينية وجمعية البنوك. وهدف المؤتمر إلى تعزيز مفهوم المسؤولية الاجتماعية للشركات والشراكة بين القطاعات المختلفة. ودعت احدى توصيات المؤتمر الى تأسيس صندوق مشترك للمسؤولية الاجتماعية بحيث تساهم المصارف بتبرعات للصندوق المشترك الذي يتولى بدوره تنفيذ برامج للمسؤولية الاجتماعية من خلال إدارة خاصة له. ولكن فكرة الصندوق المشترك للمسؤولية الاجتماعية لم تلق ترحيبا من الشركات الفلسطينية التي تفضل تنفيذ برامجها وتبرعاتها مع المؤسسات المستفيدة مباشرة، مثل رعاية دور الأيتام أو مشاريع توليد الطاقة الشمسية مع عدد من الجامعات أو تقديم عدد من المنح الدراسية، إضافة إلى دعم المهرجانات والاحتفاليات التي تتلقى دعما من أكثر من شركة في نفس الوقت لكن دون شراكة فيما بينها.
يحاجج أنصار فكرة الصندوق المشترك بأن تجميع مخصصات المسؤولية الاجتماعية وتوجيهها نحو الأولويات الوطنية من شأنه تعظيم الاستفادة من المسؤولية الاجتماعية للشركات، وتخفف العبء على الحكومة من خلال تقديم خدمات لشريحة أوسع من الفئات المحتاجة والتي لم تتمكن الحكومة من خدمتها. لكن يعارض آخرون هذه الفكرة من منطلق أن تجميع مخصصات المسؤولية الاجتماعية في صندوق مشترك يحرم الشركات المنفردة من تحقيق الظهور الكافي أو متابعة اهتماماتها الاجتماعية الخاصة بما يخدم مصلحة كل شركة، خصوصا بظل التفاوت الكبير في الميزانيات المخصصة للمسؤولية الاجتماعية بين الشركات.
يظهر من خلال تتبع برامج المسؤولية الاجتماعية للشركات في فلسطين تركيز الشركات على تقديم الرعاية والتبرعات التي تخدم تحسين سمعة الشركة وإظهار اسمها في المحل الأول. وهذا يعني هيمنة البعد االدعائي للمسؤولية الاجتماعية على تفكير الشركات وعلى أولوية زيادة الأرباح وهدف الظهور. ويبدو أن هناك ضرورة لاستنباط مجالات وآليات عمل بحيث تؤدي جهود القطاع الخاص في حقل المسؤولية الاجتماعية الى تحقيق هدفي الظهور والوفاء بالحاجات الاجتماعية بشكل فعال. وأحد الحلول المقترحة في هذا المجال أن تقوم هيئة اجتماعية، تحظى بالاحترام والقبول، بتحديد الأولويات والمشاريع والحقول التي تستوجب مساهمات من القطاع الخاص، وترك المجال مفتوحا أمام الشركات المنفردة لانتقاء المشاريع التي تحبذ المساهمة في دعمها من بين المشاريع التي حددتها الهيئة.
(نشرت في المراقب الإقتصادي، العدد 54، سنة 2018).