التسهيل الكمّي

Quantitative Easing

 

 تمارس البنوك المركزية مهام عملها من خلال مايعرف باسم "عمليات السوق المفتوحة" التي ترمي الى التحكم بسعر الفائدة في السوق. ويتم هذا عبر قيام المصارف بشراء أو بيع السندات الحكومية قصيرة الأمد بهدف التأثير، صعوداً أو هبوطاً، على سعر الفائدة الاسمي قصير الأمد الذي تتعامل المصارف التجارية على أساسه بين بعضها البعض. ويطلق على سعر الفائدة هذا اسم "الليبور"LIBOR ". حركة "الليبور" تؤثر بدورها على بقية أنواع أسعار الفائدة في الاقتصاد. ويؤدي التغير في سعر الفائدة، نتيجة عمليات بيع وشراء السندات، مما يؤثر بالتالي على مستوى النشاط الإقتصادي في البلاد. إذ يؤدي شراء البنك المركزي للسندات من السوق إلى ارتفاع أسعارها والى انخفاض سعر الفائدة، وهو ما يدفع إلى تحفيز الطلب وزيادة القروض الاستهلاكية والاستثمارية وارتفاع حدّة النشاط. وعلى العكس عندما يقوم البنك المركزي ببيع السندات فإنّ هذا ينعكس في ارتفاع سعر الفائدة وخمود النشاط الإقتصادي.

 

واجهت البنوك المركزية إبان الأزمة المالية العالمية، التي انفجرت في العام 2008، معضلة حادة. إذ أنّ السياسة النقدية التقليدية، المتمثلة بعمليات السوق المفتوحة، باتت عاجزة عن تحفيز الاقتصاد إثر الركود الكاسح الذي وقع فيه الاقتصاد العالمي. فلقد انخفض متوسط النمو العالمي من 4% في العام 2007 إلى -2% في العام 2009، وخسرت دول مهمة وكبيرة نحو ثلث إنتاجها القومي وهبط معدّل التضخم إلى الصفر تقريباً. ويعود السبب في عجز السياسة النقدية التقليدية على أنّ سعر الفائدة وصل في الوقت ذاته إلى الحضيض. أي أنّ استخدام أدوات السياسة التقليدية (تحفيز الطلب عبر تخفيض سعر الفائدة قصير الأمد) لم يعد خياراً ممكناً أمام البنوك المركزية.

 

السياسة الجديدة

جاءت سياسة "التسهيل الكمّي" تحديداً لتوفير أداة مستجدّة وغير تقليدية تستطيع المصارف المركزية من خلالها زيادة الطلب في الاقتصاد وتحفيز النمو دون الاعتماد على سعر الفائدة قصير الأمد. يتلخّص "التسهيل الكمّي" بقيام البنوك المركزية بخلق نقود (إلكترونياً) واستخدامها لشراء سندات (حكومية غالباً ولكن أيضاً سندات صادرة عن مؤسسات ماليّة خاصّة مثل صناديق التوفير والتقاعد، ومن المصارف أحياناً) ذات عمر طويل نسبياً.

طبّقت معظم دول العالم المتقدمة برامج "تسهيل كمّي" خلال الأعوام الماضية، وتضمّنت تلك البرامج مبالغ طائلة. كانت اليابان أول من تبنى هذه السياسة الجديدة في آذار 2001، وهي التي كانت الدولة الأولى التي عانت من سعر فائدة قريب من الصفر، لا بل ومن تضخم سالب منذ نهاية التسعينات. ومع حلول العام 2013 تبنّى البنك المركزي الياباني برنامجاً يتضمن شراء سندات بقيمة 70 تريليون (ألف مليار) ين سنوياً، وتم رفع هذا إلى 80 ترليون في العام 2014. وبدأ البنك الفدرالي الأمريكي ببرنامج التسهيل الكمّي في 2008 لشراء سندات إسكان بقيمة 600 مليار دولار (أطلق على هذا اسم QE1). وتم رفع المبلغ في العام التالي إلى 750 مليار. ثم جاء QE2 لشراء سندات بقيمة 75 مليار دولار بالشهر لمدة سنة في 2010/2011، ثم برنامج آخر للعام التالي بقيمة 400 مليار، ثم جاء برنامج QE3 لشراء سندات بقيمة 40 مليار دولار بالشهر بين أيلول 2012 وتشرين أول 2014. ومع حلول هذا التاريخ كانت قيمة الأصول المتراكمة لدى البنك الفدرالي 4.5 ترليون دولار. كذلك قام بنك انكلترا بإتباع ذات السياسة، بدءاً من أيلول 2009. ومع حلول تموز 2012 كان البنك قد اشترى سندات بمبلغ 375 مليار جنيه استرليني. وجاء البنك المركزي الأوروبي إلى هذه السياسة متأخراً بعد أن تعرّض إلى نقد شديد بسبب تباطئه. وأعلن البنك في نهاية 2015 عن خطّة لشراء سندات بقيمة 60 مليار يورو بالشهر. ومع حلول آذار 2016 رفع البنك المشتريات إلى 80 مليار يورو في كل شهر.

 

قنوات التأثير

السؤال الآن ماهي القنوات التي تؤثّر من خلالها الزيادة في الكتلة النقدية (التسهيل الكمّي) على الاقتصاد الحقيقي؟ يطلق الاقتصاديون على القنوات التي يتم عبرها تأثير كمية النقود على المتغيرات الحقيقية، مثل الإنتاج والتشغيل، اسم "آلية التحويل" (Transmission Mechanism). يمكن في الواقع تعريف 4 قنوات يؤثّر التسهيل الكمّي من خلالها على الاقتصاد:

  1. عندما يقوم البنك المركزي بشراء سندات فإنّ أسعارها ترتفع، أي أنّ الفائدة الحقيقية على السندات (yield) تنخفض. هذا بدوره يخفض تكاليف الاقتراض للشركات التي تقوم بإصدار سندات جديدة، وهو ما يمكن أن يحفّز الاستثمار والنمو الاقتصادي.
  2. إنّ ارتفاع أسعار السندات يزيد إحساس حملة السندات بالغنى، وهو ما يمكن أن يزيد الإنفاق والطلب.
  3. أنّ زيادة الكتلة النقدية لدى المصارف يمكن أن يشجّعها على زيادة الإقراض، وهو ما ينعكس إيجابياً على الطلب والنمو.
  4. أخيراً، أنّ زيادة الكتلة النقدية يمكن أن تحفّز التضخّم وأن تدفع به إلى المستوى المرغوب، وهو أيضاً ما ينعكس إيجاباً على الطلب والنمو ويدفع بالاقتصاد بعيداً عن مخاطر الاستقرار في مطب التضخّم السالب.

 

تقييم السياسة الجديدة

ما هو التقييم العام لسياسة "التسهيل الكمّي" وهل نجحت في إنقاذ اقتصاد الدول التي طبّقتها من الركود المزمن؟ يصعب الإجابة على هذا السؤال لأنّه يصعب عزل تأثير سياسة التسهيل الكمّي عن تأثير الإجراءات الأخرى التي تم تبنيها لمواجهة الأزمة. ولكنّ أنصار هذه السياسة يؤكدّون نجاحها. وتشير الدراسات التجريبية إلى أنّها تمكّنت من تخفيض سعر الفائدة على الديون طويلة الأمد (سندات الشركات مثلاً). كما نقل عن رئيس البنك الفدرالي الأمريكي بأنّ QE1 وQE2 أدّت إلى زيادة النشاط الاقتصادي في الولايات المتحدة بمقدار 3%، وأنّها مسؤولة عن خلق ما يقرب من 2 مليون فرصة عمل في القطاع الخاص. ولكنّ المشككين بفعالية هذه السياسة يصرون على أنّ قناة التأثير الثانية المذكورة سابقاً أدّت إلى زيادة غنى الأغنياء وتوسيع الفجوة في توزيع الدخل، وأنّ القناة الثالثة كانت غير فعّالة، إذ أنّ المصارف التي باعت السندات راكمت احتياطيات أكبر ولم تتوسع في الإقراض. كما يؤكّد المشككون أنّ سياسة التسهيل "عاقبت السلوك الجيد"، إذ أنّها أضرت بالمدخرين، كما أنّ تكاليفها كانت باهظة مقارنة بالمكاسب. ويذكر هؤلاء على سبيل المثال أنّ شراء "بنك انكلترا" لسندات بقيمة 375 مليار جنيه إسترليني ترافق مع نمو يتراوح بين 1.5-2%، أي أنّ إنفاق 375 مليار باوند نتج عنه قيمة مضافة تعادل 23-28 مليار جنيه إسترليني فقط.

البدائل

يدعو عدد من الاقتصاديين المعارضين لسياسة التسهيل الكمّي إلى سياسات بديلة، منها سياسة "تسهيل كمّي للشعب" (People’s Quantitative Easing): أي خلق نقود ومنحها مباشرة ومجاناً لكافّة الأفراد لإنفاقها. البديل الآخر هو سياسة (Sovereign Money): أي خلق نقود ومنحها مباشرة إلى الحكومة كي تقوم بإنفاقها على مشاريع البنية التحتية والخدمات الاجتماعية للمواطنين. ولكنّ هذه السياسات البديلة تترافق مع مخاطر جدّية بارتفاع التضخم إلى مستويات عالية يصعب التحكم بها وعلاجها. إذ في حين تتيح سياسة "التسهيل الكمّي" إمكانيّة قيام المصارف المركزية بإعادة بيع السندات المتراكمة لديها في حال تسارع التضخم، إلا أنّ هذه الإمكانية غير متوفرة في حال تطبيق السياسات البديلة.

 

(نشرت في المراقب الإقتصادي، العدد 45، 2016).