البضائع العامة
البضائع العامة
Public Goods
يميًز الاقتصاديون بين أربعة أنواع من البضائع والخدمات على ضوء معيارين، هما معيار" الحصرية"، أي القابلية لحصر استخدام البضاعة أو الخدمة بمن يدفع لقاء الحصول عليها، ومعيار "التزاحمية" أي إذا ما كان استخدام السلعة من شخص ما يحول دون استخدام الآخرين لها. يميز المعيار الأول بين البضائع والخدمات التي لا يحصل عليها سوى من يدفع تكلفتها (سعرها) وتلك التي لا يمكن حظرها وهي متوفرة للجميع دون مقابل. أما المعيار الثاني فيميز بين البضائع والخدمات التي إذا ما قام شخص باستهلاكها فإنها لا تعود متوفرة للآخرين، مقابل تلك التي يمكن لعدد كبير من الأشخاص استهلاكها في آن معاً دون أن تفقد من قيمتها أو فائدتها، أي تلك التي لا يحول استهلاك شخص لها من توفرها ايضاً لاستهلاك الآخرين. يعرض الشكل 1 أنواع البضائع والخدمات الأربع التي يمكن تمييزها على ضوء المعيارين المذكورين.
غير حصرية Non-Excludable |
حصرية Excludable |
|
2 بضائع "مأساة المشاع" |
1 بضائع وخدمات خاصة عادية |
تزاحمية Rivalrous |
4 البضائع العامة |
3 بضائع النوادي |
غير تزاحمية Non Rivarous |
أربعة أنواع من البضائع والخدمات
يضم المربع 1 مختلف أنواع البضائع والخدمات التي تتصف بأنها حصرية، أي لا يحصل عليها سوى من يدفع مقابلها، وبأنها تزاحمية أيضا، أي تلك التي حال حصول واستهلاك فرد لها تصبح غير متوفرة للآخرين. وهذا النوع من البضائع والخدمات هو النوع الغالب والعادي من السلع، وهو ما تقوم المؤسسات الاقتصادية الخاصة بإنتاجه وتسويقه، بدرجة أو أخرى من الفعالية.
يشتمل المربع رقم 2 على البضائع والخدمات التي لا يمكن حصر الحصول عليها بمن يدفع مقابلها، والتي تتصف بأنها تزاحمية أيضا، أي ان استهلاك شخص لها يحول دون توفرها للآخرين. مثال على هذا النوع من البضائع هو المراعي والغابات المفتوحة والسمك في البحار. ويطلق على هذا النوع من البضائع اسم "مأساة المشاع" (Tragedy of the Commons) نظرا لأن الاستهلاك المجاني وغير المقيد لها يؤدي إلى استنزافها ويحول دون استفادة الآخرين منها. والمثال المعاصر لهذا النوع من "البضائع" الهواء النقي حيث يستهلكه البعض دون حساب (عبر تلويثه) وهو ما يحول دون استمتاع الآخرين بالهواء والجو غير الملوث. ومن الواضح هنا أن السوق الحر (القطاع الخاص) لا يقوم بالاستثمار في انتاج هذا النوع من السلع والخدمات.
المربع 3 يضم البضائع التي يطلق عليها اسم " بضائع النوادي": البث التلفزيوني المشفًر، أو مشاهدة الأفلام في قاعة السينما مثلاُ. هذه خدمات يمكن حصر الحصول عليها بمن يدفع مقابلها، ولكن استهلاك (مشاهدة) أحد الأفراد لها لا يقلل من قيمتها ولا يحول دون استهلاك الآخرين لها. اخيراً، المربع رقم 4 يشتمل على البضائع والخدمات غير الحصرية وغير التزاحمية. وهذا النوع من البضائع والخدمات يطلق عليه اسم "البضائع العامة". البث التلفزيوني غير المشفًر وخدمات الدفاع الوطني واجراءات الحماية من الزلازل والفيضانات هي أمثلة على البضائع العامة. هذه بضائع وخدمات لا يمكن حصر الاستفادة منها بمن يدفع مقابلها، كما أنها غير تزاحمية بمعنى أن استهلاك فرد ما لها لا يحول دون توفرها للآخرين.
البضائع العامة تعكس" فشل السوق"
البضائع العامة، هي إذن بالتعريف، نقيض البضائع الخاصة العادية، فهي غير حصرية وغير تزاحمية في آن معا. وهو ما يعني أن السوق الحر والقطاع الخاص لن يقوم بإنتاج هذا النوع من البضائع نظرا لإنعدام حافز الربح والمصلحة الخاصة في الاستثمار والإنتاج لسلع وبضائع لا يمكن السيطرة على من يحصل عليها ولا تقل قيمتها عند استخدام فرد لها. ويطلق الاقتصاديون على عجز السوق الحر عن انتاج هذه البضائع اسم "فشل السوق" (Market Failure): قوى السوق الحرة لن تسد الحاجة الى هذه السلع على الرغم من توفر طلب عليها. ولهذا السبب فإن توفير هذه البضائع يقع على عاتق الحكومة، التي يتوجب عليها تمويل إنتاج هذه السلع والخدمات وجعلها في متناول الجميع.
إنتاج الأفكار والابتكارات
أعادت نظرية النمو الحديثة الاهتمام الى ظاهرة السلع غير التزاحمية. وركزت نظرية "النمو الداخلي" (Endogenous Growth) بشكل خاص على موضوع "انتاج" و"صناعة" الأفكار والابتكارات الجديدة. الأفكار الجديدة يتم انتاجها بشكل واع في مراكز البحث والتطوير. وهي، كما الحال مع انتاج البضائع العادية، تحتاج الى استثمارات والى "عمال" والى أسواق. ولكن الأفكار هي بضائع غير تزاحمية، اذ حالما يتم اكتشافها يمكن للجميع استخدامها دون أن تقل قيمتها أو فائدتها. ونظراً لأن قيود براءات الاختراع محدودة الفعالية فإن الأفكار الجديدة هي أيضا غير حصرية. وبالتالي فإن قوى السوق الحرة سوف تفشل في انتاج الكمية الكافية والمثلى من الأفكار والابتكارات الجديدة، وهو ما يتطلب تدخلا في آلية السوق لضمان استمرار "انتاج" الأفكار والنمو الاقتصادي.
البضائع العامة والتكنولوجيا
ساهمت التطورات التكنولوجية في السنوات الأخيرة بالحد من عدد البضائع العامة ومن بضائع "مأساة المشاع" أيضا. إذ أنّ معدات الرقابة الحديثة نقلت استخدام عدد من السلع والخدمات من عدم الحصرية الى الحصرية. على سبيل المثال، بات بالإمكان الآن حصر ومراقبة السيارات التي تدخل حدود المدن وأصبح من الممكن تحميل المسؤولين عن الازدحام وزيادة التلوث في المدن تكاليف أفعالهم. أي أن شرط عدم الحصرية انتفى الآن عن عدد كبير من الخدمات ولم تعد الشوارع السريعة أو ماشابهها بضاعة عامة بالضرورة. ايضاً يمكن الإدعاء الآن بأن الهواء النقي لم يعد بضاعة عامة تماما طالما بات بالإمكان تحديد ومعرفة المسؤولين عن التلوث وفرض ضريبة عليهم تتناسب مع مقدار التلوث المسؤولين عنه، أي اجبار الملوثين على دفع "سعر" للهواء النقي الذي يشترونه ثم يقومون بتلويثه، أو دفع تكاليف اعادة تنقية الهواء الملوث.
فشل السوق: المنفعة الاجتماعية مقابل المنفعة الخاصة (Private vs. Social Benefits)
من المهم التأكيد على أن مهام الحكومات لا تقتصر فقط على توفير البضائع العامة المتولدة عن “فشل الأسواق" بتأثير عدم الحصرية وعدم التزاحمية. ذلك لأن هناك أشكالا أخرى متعددة لفشل الأسواق وكلها تتطلب تدخلا خارجيا وتعديلا على آلية السوق الحر. على سبيل المثال، تفشل قوى السوق الحرة في توفير الكميات المثلى المطلوبة اجتماعيا من عدد من البضائع والخدمات، وهو ما يقتضي أيضا تدخلا من الحكومة للتعويض على هذا الفشل. ويحصل هذا عندما تكون المنافع الخاصة من إنتاج بضائع أو خدمات معينة اقل من المنافع التي يحققها المجتمع ككل من هذه الخدمات. في هذه الحالات، ونظرا لأن السوق ينتج فقط على ضوء المنافع الخاصة، فإن كمية الإنتاج تكون أقل من الأمثل الاجتماعي.
خذ التعليم على سبيل المثال. عندما يستثمر شخص ما في تعليم نفسه فانه يهدف الى تحقيق منفعته الخاصة. ولكن الفرد المتعلم يترك أيضا أثرا ايجابيا على المجتمع ككل. هذا يعني أن المجتمع له أيضا مصلحة في زيادة تعليم الأفراد. السوق الحر لا يقوم “بإنتاج" التعليم سوى على ضوء المصالح الخاصة الضيقة، أي لا ينتج الكمية الكافية من المتعلمين. والأمر ذاته يصدق على تدريب العمال، اذ نظراً لان المصانع لا تستفيد من كامل ما تنفقه على تعليم وتدريب عمالها (الذين يمكن أن يغادروا للعمل في أماكن أخرى)، فإنها لا تستثمر بما فيه الكفاية في التعليم والتدريب: المنفعة الخاصة للشركة من تدريب العمال هي أقل من المكاسب الاجتماعية. وكذلك الحال بالنسبة للرعاية الصحية. وكلما فشل السوق في إنتاج الكميات الاجتماعية المثلى من سلعة أو خدمة ما، كلما استدعى الأمر التدخل من الحكومة لضمان الإنتاج على المستوى الأمثل الاجتماعي.
فشل السوق: الاحتكار الطبيعي (Natural Monopoly)
تتميز بعض النشاطات الاقتصادية بأن تكاليف تأسيسها عالية للغاية وأن وفورات الحجم (Economies of Scale) فيها مرتفعة أيضا، وهذا يعني أنه كلما توسع الإنتاج كلما انخفضت تكاليف انتاج الوحدة من الخدمة. وتوفر هذه المواصفات الفرصة أمام شركة واحدة (أو بضع شركات) لإحتكار كامل السوق والحيلولة دون دخول شركات أخرى لمنافستها. وهذا شكل آخر من أشكال "فشل السوق"، وهو ما يتطلب تدخل الدولة، اما لتحمل أعباء توفير الخدمة عوضا عن المحتكر الخاص، أو لوضع التشريعات لضبط عمل السوق والحيلولة دون استغلال الشركة لموقعها الاحتكاري. شبكات توزيع الماء والكهرباء وشبكات المجاري، وخطوط المترو والسكك الحديدية، وأنابيب نقل الغاز والنفط هي أمثلة على النشاطات التي تحمل مواصفات الاحتكار الطبيعي.
(نشرت في المراقب الإقتصادي، العدد 56، سنة 2019).