استراتيجية تعويض الواردات

استراتيجية تعويض الواردات

Import Substitution Strategy (ISS)

 

حظيت استراتيجية تعويض الواردات بالتبني والتطبيق، كدليل للسياسة الصناعية، في عدد كبير من دول العالم النامي، خصوصاً في أمركيا اللاتينية، في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. وتدعو هذه الاستراتيجية إلى التدخل النشط للدولة لدعم وتأسيس صناعات محلية تقوم بإنتاج بضائع (استهلاكية غالباً) تحل محل بضائع كانت الدولة تستوردها من الخارج. أي الاستعاضة عن الواردات ببضائع يتم إنتاجها محلياً. وهذا يتطلب مبدئياً فرض تعرفة جمركية عالية تحول دون تدفق المستوردات المنافسة، ثم دعم الإنتاج المحلي عبر سياسات تحفيزية بدءاً من السيطرة على سعر صرف العملة، ومروراً بغض الطرف عن التسعير المرتفع للمنتجات المحلية، وانتهاءً بالدعم المادي المباشر من الحكومة.

 

يستند التبرير النظري لاستراتيجية تعويض الواردات على ثلاثة حجج رئيسية:

  • حجّة "الصناعات الوليدة" (Infant Industries). تعود حجة الصناعات الوليدة إلى الاقتصادي الألماني فريدريش ليست (1841). وملخّصها أنّ الصناعات الجديدة الناشئة لا تقوى في مطلع حياتها على منافسة المنتجات المستوردة. وهو ما يقتضي حمايتها حتى يشب عودها وتزداد خبرتها وكفائتها، مما يسمح لها لاحقاً بالنزول إلى حلبة المنافسة الدولية. أي أنّ بعض الصناعات الواعدة في المستقبل تحتاج إلى دعم وحماية في مطلع حياتها، وهو ما يعني ضمنياً أنّ المساعدة والدعم لهما طبيعة مؤقتة فقط وليس دائمة.
  • أنّ أسعار المواد الأولية كانت تعاني، في الفترة أثناء صعود استراتيجية تعويض الواردات، من انخفاض في السوق الدولية مقارنة بأسعار المواد المصنّعة. وينتج عن هذا أن تخصص البلدان النامية بتصدير المواد الخام واستيراد المنتجات المصنّعة كان يترافق مع "تبادل غير متكافئ" بين الدول النامية والمتطورة، وخسارة واستنزاف لموارد الدول الفقيرة. على ذلك يتوجب على الدول النامية أن تسعى إلى الخروج من أسر التجارة غير العادلة، وتطوير صناعاتها المحلية بأسرع ما تستطيع لإيقاف الاستنزاف المزمن.
  • أنّ الدول النامية تعاني من عجوز ضخمة في موازينها التجارية مع العالم الخارجي بسبب الاستيراد الاستهلاكي الذي يشجّعه التأثير الثقافي الغربي. والحد من الواردات، عبر الحواجز الجمركية العالية، هو أحد الأساليب المهمّة لتقليص العجز والحيلولة دون تسرب القطع الأجنبي للهدر الاستهلاكي عوضاً عن استخدامه في تمويل استيراد بضائع رأس المال لتعزيز طاقة الإنتاج المحلي.

 

تحفيز الصادرات أم تقليص الواردات؟

تقف استراتيجية "تحفيز الصادرات" (Export Promotion Strategy) كمنهج للسياسة الصناعية، على الطرف النقيض من استراتيجية تعويض الواردات. إذ في حين تركّز الأخيرة على السوق المحلية كمحرك وموجه للتصنيع، تؤكّد الأولى على أهمية السوق العالمية والانفتاح على الخارج. وفي حين تؤكد الثانية على تقليص ما يتم استيراده لعلاج اختلال الميزان التجاري، تركّز الأولى على علاج العجز بتحفيز التصدير. استراتيجية تعويض الواردات داخلية التوجه (Inward-Looking) في حين استراتيجية تحفيز التصدير ذات توجه خارجي (Outward-Looting). التباين الآخر المهم بين الاستراتيجيين يتمثّل في أنّ استراتيجية تعويض الواردات تفترض دوراً مهماً للدولة في الحياة الاقتصادية، في حين تعتمد استراتيجية تحفيز التصدير على آليات السوق الحرة والدور المحدود للدولة.

 

مزايا ومثالب تطبيق الإستراتيجية

تشتمل استراتيجية تعويض الواردات على ميزتين مهمتين:

  • أنّ وجود مستوردات كبيرة من سلع وبضائع معينة يعني أنّ هناك طلباً فعالاً وسوقاً مهمة وجاهزة لهذه البضائع. وعلى ذلك فإنّ سوق التصريف تكون مضمونة عند اتخاذ قرار الاستثمار في خلق طاقة إنتاج محلية لهذه البضائع. وهو ما يحيّد أحد عوامل المخاطرة المهمة في عمليات الاستثمار والإنتاج.
  • أنّ رفع الحواجز الجمركية أمر سهل نسبياً وفعال لعلاج عجز الموازين التجارية، مقارنة بالجهود المضنية اللازمة لإنتاج سلع تصديرية، ولإقناع الدول المتطورة بفتح أسواقها أمام منتجات الدول النامية.

على أنّ استراتيجية تعويض الواردات تترافق مع ثلاثة أنواع من المخاطر والسلبيات، كما أوضحت تجارب الدول العديدة التي تبنّت هذه الاستراتيجية.

  • أنّ الصناعات المحليّة غالباً ما تعتاد على الحماية من المنافسة الخارجية. وعوضاً عن أن تكون الحماية والدعم إجراءات مؤقتة تصبح متطلبات دائمة، وهو ما يترافق مع استنزاف مستديم للموارد العامة، واستكانة الشركات إلى التعامل مع "سوق أسير" ليس أمامه من خيارات سوى المنتجات الرديئة ذات الأسعار الباهظة. لا بل أنّ هذا المناخ غالباً ما يترافق مع فساد إداري وسياسي، إذ تتركز جهود الشركات على تأسيس مجموعات الضغط (اللوبي) للتأثير على القرارات الحكومية وصيانة الدعم والحواجز الجمركية العالية، عوضاً عن بذل الجهود لتطوير الإنتاج وتحسين نوعية المنتجات وتبني التكنولوجيا الحديثة.
  • أنّ صغر حجم السوق المحلية، والتغطية ضد المنافسة الخارجية والعزلة عن السوق الدولية وعن التعامل والتفاعل مع التحديث التقني والمناهج الإدارية المبتكرة يؤدي إلى تراجع فعالية الشركات الصناعية وتخلفها عن ركب التطور والتحديث.
  • أنّ تعويض استيراد المنتجات الاستهلاكية الخفيفة بالإنتاج المحلي أمر سهل نسبياً، ويمكن التغاضي عن بؤس نوعية المنتجات التي تتولد عنه. ولكنّ الصعوبات تزداد بشكل كبير مع جهود إحلال المستوردات الصناعية الأكثر تطوراً ومعدات رأس المال حيث يصعب التهاون بالنوعية والكفاءة.

 

تجربة نمور آسيا

جاءت تجربة دول جنوب شرق آسيا الأربع (هونغ كونغ، تايوان، سنغافورة، وكوريا الجنوبية) لتُلقي ظلالاً من الشك حول جدوى استراتيجية تعويض الواردات. إذ على العكس من إنجازات التصنيع السريع التي حققتها تلك الدول، والتي اعتمدت على أسواق التصدير والإنفتاح على السوق الدولية، واجهت معظم الدول التي تبنت سياسة تعويض الواردات هدر في الموارد وشح في الإنتاج فضلاً عن تراكم الديون والعجوز التجارية.

على أنّ تجربة "النمور الأربعة" يمكن النظر إليها كمزاوجة خلاّقة بين عناصر من سياسات التصنيع ذات التوجه الداخلي والخارجي في آن معاً. ذلك لأنّ استراتيجية تحفيز الصادرات، التي اعتمدتها تلك الدول، استندت أيضاً على التدخل النشط للدولة في توفير البني التحتية ورفع كفاءة قوة العمل وتقديم مختلف أشكال الحوافز والتسهيلات المادية للشركات الخاصة لتحقيق الأهداف المرتبطة بالتصدير.

(نشرت في المراقب الإقتصادي، العدد 53، سنة 2018).