مكافئ القوة الشرائية
مكافئ القوة الشرائية
Purchasing Power Parity (PPP)
من المعلوم أنّ مقياس الدخل، أو الناتج المحلي الإجمالي، يعاني من مثالب متعددة، وهو على ذلك ليس مؤشراً أميناً للتدليل على مستوى الرفاه الاقتصادي والاجتماعي. ولكن هذا المؤشر يظل الأوسع استخداماً والأكثر انتشاراً للتعبير عن مستوى النشاط الاقتصادي وللمقارنة بين مستويات الحياة في البلدان المختلفة. ولعل أفضل تفسير لهذه المفارقة هو ما ذكره الاقتصادي البارز آرثر لويس (جائزة نوبل في 1979): "أن مستوى الدخل للفرد ما يزال، على الرغم من كل نواقصه، أفضل مؤشر متاح للرفاه، ذلك لأن مستوى الدخل يتيح الفرصة أمام الفرد لأن يسيطر على مصيره ويتحكم به".
الناتج المحلي الإجمالي هو القيمة النقدية لكافة أنواع البضائع والخدمات التي يتم إنتاجها في الاقتصاد خلال فترة سنة. ويتم حساب قيمة هذه البضائع والخدمات بضرب كميات إنتاجها بأسعارها في السوق. ومن بين النوادر التي تذكر للتعبير عن إحدى النواقص الأساسية التي يعاني منها مؤشر الناتج المحلي ان زواج الرجل من الطاهية أو المربية التي تعمل في منزله يؤدي إلى انخفاض الناتج المحلي. ذلك لأن عمل المربية هو عمل سوقي (يمر في السوق) مدفوع الأجر ويدخل في حساب الناتج المحلي، في حين أن الأعمال المنزلية للزوجة وتربية الأطفال هي نشاطات غير سوقية (إذن غير اقتصادية) ولا تدخل في حساب الإنتاج. قصور آخر يعاني منه مؤشر الدخل يتمثل في أنّ الناتج المحلي الإجمالي هو مقياس للتدفق وليس للمخزون، وهذا يعني أن الدول يمكنها من حيث المبدأ زيادة الناتج المحلي فيها، أو الدخل، على حساب استنزاف مخزون الثروات الطبيعية والرأسمالية في البلاد.
الأسعار الثابتة
استنبط الاقتصاديون حلولاً مقنعة لعدد من المثالب التي يعاني منهما مؤشر الناتج المحلي: الأول يتعلق بالمقارنة بين أرقام الناتج في نقطتي زمن مختلفتين، والثاني يتعلق بمقارنة الناتج المحلي الإجمالي بين البلدان المختلفة. ينشأ المثلب الأول من أن تغير قيمة الناتج المحلي بين سنة وأخرى قد يتولد من ارتفاع الأسعار وليس من زيادة الكميات التي يتم إنتاجها من السلع والخدمات. وللتخلص من تأثير زيادة الأسعار يتم استخدام ما يعرف باسم "الأسعار الثابتة". على سبيل المثال، إذا أردنا التوصل إلى قيمة زيادة الإنتاج "الحقيقية" (أي تلك التي تعزى الى زيادة كميات الإنتاج وليس الى ارتفاع الأسعار) بين العام 2000 و2010، نقوم بضرب كميات البضائع والخدمات التي تم إنتاجها في العام 2010 بأسعار هذه البضائع والخدمات في العام 2000. والزيادة في قيمة الناتج المحلي هذه عن قيمته في العام 2000 تمثل النمو" الحقيقي" للاقتصاد، أي ما يعرف باسم النمو بالأسعار الثابتة للعام 2000.
المقارنات الدولية
المشكلة الثانية، أي مشكلة المقارنة بين الناتج المحلي في الدول المختلفة، ترتبط بالتباين الكبير في أسعار السلع والخدمات بين دول العالم. على سبيل المثال، إنّ إنتاج كل طن قمح يدخل في حساب الناتج المحلي تبعاً لسعر هذا الطن في السوق المحلية، وهذا يعني أنّ إنتاج ذات الكمية من القمح (ومن النوعية ذاتها) تضيف إلى الناتج المحلي الإجمالي قيمة أعلى بكثير في الدول الغنية التي تسود فيها الأسعار المرتفعة، مما تفعله في الدول الفقيرة. وهذا ما يجعل مقارنة الأرقام الجارية للناتج المحلي بين الدول غير دقيقة وغير عادلة طالما أنها تعكس جزئيا التباين بالأسعار وليس فقط التباين في كميات ونوعيات الإنتاج. جوهر الإشكالية يكمن في أن مقارنة الإنتاج والدخل بين الدول تتطلب تحويل قيم الناتج المحلي المختلفة الى قيمتها بعملة واحدة، ولكن أسعار الصرف بين العملات لا تعكس بأمانة ودقة تباين القوة الشرائية للعملات المختلفة. وهذه هي المشكلة التي وضع الاقتصاديون لها حلاً تحت عنوان أسعار صرف "مكافئ القوة الشرائية" (PPP).
مكافئ القوة الشرائية
هناك نوعان من أسعار الصرف بين العملات، سعر الصرف الجاري وسعر صرف مكافئ القوة الشرائية. الأول هو السعر المراقب في السوق، مثلاً كل 1 دولار يعادل 18.7 جنية مصري. سعر الصرف الثاني هو سعر بديل لسعر صرف السوق، ويقوم على أساس تكاليف الحياة في كل دولة مقارنة بالدولة الأخرى، وعلى التباين في معدّلات التضخم بينها. سعر صرف مكافئ القوة الشرائية يوحد ويوازن بين أسعار كافة السلع والخدمات فيما بين دولتين. مثلاُ إذا كان ما يمكن شراءه ب 10 دولارات في أمريكا يطابق من حيث الكمية والنوعية تماماً ما يمكن شراءه ب 50 جنيه مصري، فإنه سعر الصرف الذي يعادل ما بين القوة الشرائية للعملتين يكون 5 جنيهات لقاء كل دولار. سعر صرف القوة الشرائية هذا يعني أن سعر صرف الجنيه المصري في السوق المذكور سابقاً أقل من قيمته الحقيقية (Undervalued) بمقدار يقرب من 70%. واضح أنّ استخدام سعر صرف مكافئ القوة الشرائية سوف يرفع من قيمة الناتج المحلي الإجمالي لمصر مقاساً بالدولار بمقدار يقرب من ثلاثة أضعاف قيمته عند استخدام سعر صرف السوق.
برنامج المقارنات الدولي (ICP)
أولت هيئة الأمم المتحدة اهتماماً كبيراً بتطوير تقنيات تسمح بإجراء مقارنات دولية لأرقام الحسابات القومية. وقامت في العام 1968 بتأسيس برنامج دائم لهذا الغرض تحت اسم برنامج المقارنات الدولية (International Comparison Program) والذي يعمل الان تحت مظلة البنك الدولي. ويقوم البرنامج بشكل دوري بتقدير ونشر بيانات عن قيم الناتج المحلي الإجمالي حسب مكافئ القوة الشرائية في 199 دولة (بما فيها فلسطين). ولقد صدر المجلد الأخير للبرنامج في العام 2014 وهو يغطي أسعار صرف مكافئ القيمة الشرائية في دول العالم في العام 2011. ويوفر الجدول 1 نبذه عن الأرقام التي وردت في ذلك المجلد لعدد من الدول المختارة.
يستحيل بالطبع التوصل بشكل مباشر إلى سعر الصرف الذي يوحد تماماً بين أسعار كافة السلع والخدمات المتشابهة في بلدين مختلفين. ولهذا السبب اختار برنامج المقارنات الدولية طريقاً بديلاً للحساب. يفترض هذا الطريق أنّ هناك أسعاراً واحدة لكافة البضائع والخدمات في كافة انحاء العالم، وأن هذه الأسعار مطابقة للأسعار السائدة في الولايات المتحدة الأمريكية. حالما يتم افتراض هذه الأسعار العالمية الموحدة فان الخطوة التالية تتمثل في ضرب هذه الأسعار بكميات البضائع والخدمات التي يتم إنتاجها في البلدان المختلفة. وحصيلة عملية الضرب هذه تمثل النتاج المحلي الاجمالي لهذه الدول مقاساً، ليس فقط بالدولار الأمريكي، ولكن أيضاً مقاساً بالأسعار الأمريكية. وهكذا يصبح بالإمكان مقارنة أرقام النواتج المحلية للدول المختلفة مع بعضها البعض نظرا لأن مستويات الأسعار باتت موحدة فيما بينها.
التباين بين اسعار الصرف الجارية ومكافئ القيمة الشرائية
يسجل العمود الأول في الجدول 1 قيم الناتج المحلي الإجمالي في دول مختلفة بالعملات المحلية (مثلاً الاردن 20.5 مليار دينار، ومصر 1,371 مليار جنيه). كما يسجل العمود الثاني قيمة الناتج المحلي لهذه الدول مقيماً بالدولار على ضوء سعر الصرف السائد في السوق بين العملة المحلية والدولار. واضح أن قيمة الناتج المحلي الإجمالي في أميركا تظل على حالها في العمودين الأول والثاني. لاحظ ايضاً أن قيمة الناتج المحلي في كل من إسرائيل وفلسطين تم تحويلها من الشيكل (في العمود 1) إلى الدولار (العمود 2) بسعر صرف سوقي واحد يعادل 3.571 شيكل لكل دولار.
|
الناتج المحلي الإجمالي |
الناتج المحلي الإجمالي للفرد |
|||
مليار عملة محلية 1 |
مليار دولار 2 |
مليار دولار مكافئ شراء 3 |
دولار 4 |
دولار مكافئ شراء 5 |
|
الولايات المتحدة |
15,533.8 |
15,533.8 |
15,533.8 |
49,782 |
49,782 |
النرويج |
2,750 |
490.5 |
306.5 |
99,035 |
61,879 |
الصين |
47,310.4 |
7,921.9 |
13,495 |
5,456 |
10,057 |
مصر |
1,371.1 |
229.9 |
843.8 |
2,888 |
10,599 |
الأردن |
20.5 |
28.8 |
59.8 |
4,615 |
11,169 |
إسرائيل |
923.9 |
258.2 |
234.2 |
33,259 |
30,168 |
فلسطين |
35.0 |
9.8 |
16.0 |
2,345 |
3,833 |
يسجل العمود الثالث قيمة الناتج المحلي الإجمالي على ضوء مكافئ القوة الشرائية. ويتم حساب هذا، كما ذكرنا سابقاً، بضرب كميات الإنتاج من البضائع والخدمات في الأردن مثلاً بأسعار هذه البضائع والخدمات ذاتها في الولايات المتحدة. واضح أن قيمة الناتج المحلي في أمريكا تظل أيضاً على حالها هنا كما في العمودين السابقين. ولكن قيمة الناتج حسب مكافئ القوة الشرائية (المحسوبة باستخدام الأسعار الأمريكية) تختلف في كافة الدول الأخرى عن قيمتها المحسوبة باستخدام أسعار الصرف السوقية. لاحظ أن سعر صرف مكافئ القوة الشرائية للأردن مثلا يمكن حسابه الآن بشكل غير مباشر، عبر تقسيم ن. م. ا. بالدينار على ن. م. ا. للأردن مقاسا بالأسعار الأمريكية (20.5/59.8= 0.34). وسعر الصرف هذا يختلف بشكل كبير عن سعر الصرف السوقي للدينار والذي يعادل 0.71 دولار لكل دينار.
القاعدة العامة للتباين بين قيمة الناتج الحدي بالدولار الجاري وقيمته بدولار مكافئ القوة الشرائية هي كالتالي: كلما كانت الأسعار في بلد ما أعلى من الأسعار السائدة في أمريكا (كما في النرويج مثلاً)، فإن قيمة الناتج المحلي فيها حسب مكافئ القوة الشرائية تكون أدنى من قيمة الناتج حسب سعر صرف السوق. والعكس بالعكس. وكلما توسع الفرق بين الأسعار، كبر الفارق بين الناتج المحلي مقاساً بالطريقتين.
خذ إسرائيل وفلسطين على سبيل المثال، نظراً لأنّ الأسعار في إسرائيل أعلى بمقدار 13 نقطة عن الأسعار في أمريكا (متوسط الأسعار في 199 دولة يبلغ 100)، فإن ناتجها المحلي مقاساً بدولار مكافئ القوة الشرائية يقل بمقدار 24 مليار عن قيمته حسب سعر صرف السوق (سعر صرف الدولار حسب مكافئ القوة الشرائية في إسرائيل يعادل 3.945 شيكل). أما في فلسطين، ونظراً لأن مستوى الأسعار فيها أقل بمقدار 50 نقطة عن الأسعار في أمريكا، فإن الناتج المحلي حسب مكافئ القوة الشرائية فيها أعلى من الناتج المحلي الجاري بمقدار 6.2 مليار دولار (سعر صرف الدولار حسب مكافئ القوة الشرائية في فلسطين يعادل 2.187 شيكل: أي ما يمكن شراءه بدولار واحد في أمريكا يمكن شراءه بكمية ونوعية مطابقة تماماً بـِ 2.187 شيكل في فلسطين).
لا شك أن استخدام أسعار صرف مكافئ القوة الشرائية يعطي صورة أكثر دقة وأكثر عدالة عن مستويات الدخل في الدول المختلفة. على سبيل المثال أن دخل الفرد المصري لا يزيد على2,888 دولار جاري في العام 2011، ولكنه يرتفع الى 10,599 دولار حسب مكافئ القوة الشرائية. من ناحية ثانية فان مقارنة مستويات الدخل بالدول المختلفة مع بعضها البعض ليس لها دلالة حقيقية وعملية إذا ما تم تجاهل التباين في أسعار السلع والخدمات بين هذه الدول. ويكفي هنا أن نشير الى أن دخل الفرد المصري في 2011 كان لا يزيد على 3% من دخل الفرد في النرويج حسب أسعار الصرف الجارية، في حين انه يصل الى 17% عند المقارنة بمكافئ القوة الشرائية.
(نشرت في المراقب الإقتصادي، العدد 48، سنة 2017).