نظام الحسابات القومية

نظام الحسابات القومية

The System of National Accounts (SNA)

 

خلال الأزمة الاقتصادية الحادّة التي اجتاحت دول العالم في 1929- 1932، والتي يطلق عليها اسم "الأزمة العالمية الكبرى"، افتقد الرئيس الأمريكي آنذاك، فرانكلين روفلت، وجود مؤشّر يدلل على نجاح أو فشل إجراءات السياسة الاقتصادية التي يجري تطبيقها (The New Deal) للخروج من الأزمة. ولسد هذا النقص تمّ وضع مؤشر تقريبي لقياس النشاط الاقتصادي. ولم يتضمن هذا المؤشر سوى قيمة الإنتاج الصناعي في الولايات المتحدة، إلى جانب أسعار الأسهم في البورصة.  وكان هذا بداية تاريخ ما بات يعرف باسم "الحسابات القومية".

وبعد بضعة سنوات قام الاقتصادي الروسي-الأمريكي سايمون كوزنه (الذي حاز على جائزة نوبل في العام 1970) باقتراح إطار نظري ومنهجية لصياغة عدد من المؤشرات الكمية ترمي إلى قياس طاقة الاقتصاد الأمريكي وأداؤه، بما فيها مؤشر قريب من صيغة الناتج المحلي الإجمالي الحالية. وفي الوقت ذاته تقريباً، طور الاقتصادي البريطاني ريتشارد ستون، نظاماً ومنهجية مفصلة للغرض ذاته وطبقها على الاقتصاد البريطاني. ولقد تم تبني منهجية ستون من قبل منظمة الأمم المتحدة في العام 1947، وجرى تطويرها لتصبح "نظام الحسابات القومية (SNA)" المعروف حالياً.

نظام الحسابات القومية هو النظام الدولي القياسي المعتمد لقياس الوزن الاقتصادي للدول المختلفة ولقياس تطور النشاط الاقتصادي ونمو الإنتاجية والتجارة الدولية والتحويلات البينية. ويشرف على هذا النظام لجنة خاصة في الأمم المتحدة، وهي تعمل بشكل مستمر على تحديث وتطوير مكونات ومنهجية النظام.

 

الحسابات القومية

الناتج المحلي الإجمالي هو قيمة كافّة السلع والخدمات التي تمر في السوق والتي يتم إنتاجها خلال فترة زمنية معينة (سنة) في بقعة جغرافية محددة (دولة). ويمكن النظر إلى هذا الناتج من ثلاث جهات، علماً بأنّ تقدير قيمتة تتطابق في الجهات الثلاث:

  • جهة الإنتاج: إجمالي القيمة المضافة التي تتحقق في الدولة خلال سنة.
  • جهة الدخل: إجمالي الدخول التي تتولد خلال العملية الإنتاجية في الدولة خلال سنة.
  • جهة الإنفاق: إجمالي الإنفاق على السلع والخدمات في الدولة خلال سنة.

يعرض الجدول 1 بنية الحسابات القومية من جهة الدخل ومن جهة الإنفاق. وإذا نظرنا إلى الناتج المحلي الإجمالي من جهة الإنفاق (العمود الأيمن) نرى أنّه يتكون من مجموع الإنفاق الاستهلاكي (الخاص والحكومي) إضافة إلى الإنفاق الاستثماري وصافي الصادرات (أي الصادرات مطروحاً منها الواردات). هذا يمثل إجمالي الإنفاق على مايتم إنتاجه محلياً في الاقتصاد، وهو يعادل أيضاً إجمالي الدخول التي تتولد في الاقتصاد خلال العمليات الإنتاجية (السطر الأول من العمود الأيسر في الجدول 1). عملياً إذن فإنّ قيمة الناتج المحلي وقيمة الدخل المحلي متطابقتان، والفرق بين" الناتج" و"الدخل" يقتصر على أنّ الأول يعتمد منظور الإنتاج والآخر منظور الدخل.

 

الجدول 1: بنية ومكونات الحسابات القومية

الدخل

الإنفاق

تعويضات العاملين (الأجور والرواتب) + فائض العمليات (الأرباح وعوائد السندات والأسهم)

   الاستهلاك الخاص  

+ الاستهلاك الحكومي

+ الاستثمار (تكوين رأس المال الإجمالي)

+ الصادرات

- الواردات

= الدخل المحلي الإجمالي (بأسعار السوق)

= الناتج المحلي الإجمالي (بأسعار السوق)

- صافي الضرائب غير المباشرة (الضرائب – المساعدات)

- صافي الضرائب غير المباشرة (الضرائب – التحويلات)

= الدخل المحلي الإجمالي (بأسعار عوامل الإنتاج)

= الناتج المحلي الإجمالي (بأسعار عوامل الإنتاج)

+/- صافي دخل عوامل الانتاج من الخارج

+/- صافي دخل عوامل الانتاج من الخارج

= ادخل القومي الإجمالي (بأسعار عوامل الإنتاج)

= الناتج القومي الإجمالي (بأسعار عوامل الإنتاج)

- إهتلاكات رأس المال

- إهتلاكات رأس المال

= الدخل القومي الصافي بأسعار عوامل الإنتاج (الدخل القومي)

= الناتج القومي الصافي (بأسعار عوامل الإنتاج)

 

  • من "أسعار السوق" الى أسعار "تكاليف العوامل"

تشتمل قيمة الناتج المحلي الإجمالي على صافي الضرائب غير المباشرة (أي الضرائب غير المباشرة مطروحاً منها مساعدات الحكومة للمنتجين). وهو ما يعني أنها محسوبة بأسعار السوق. وعند طرح قيمة صافي الضرائب غير المباشرة فإننا نتوصل الى الناتج المحلي الإجمالي محسوبا بأسعار تكاليف عوامل الإنتاج (Factors-Cost Prices).

 

  • من "المحلي" إلى "القومي"

كما ذكرنا سابقاً يقيس الناتج المحلي الإجمالي الإنتاج والدخل في بقعة جغرافية معينة، بغض النظر عن جنسية الأشخاص والمؤسسات الذين قاموا بعملية الإنتاج أو الإنفاق. أي أنّ هذا المؤشر هو (Location-Based). بالمقابل فإنّ الناتج القومي الإجمالي يقيس إنتاج وإنفاق المواطنين فقط في دولة معينة، سواء كان هؤلاء يحرزون دخولهم من داخل أو من خارج حدود هذه الدولة. أي أنّ مؤشر الناتج القومي هو (Ownership-Based). على سبيل المثال، الدخل الذي يحققه بنك القاهرة-عمان في فلسطين يدخل في حساب الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني، ولكن يتم استثناؤه عند حساب الناتج القومي الفلسطيني. بالمقابل، فإنّ دخل عمال الضفة الغربية الذين يعملون في إسرائيل ليس مكوناً من مكونات الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني، ولكنّه مكوّن أساسي في الدخل القومي. على ذلك فإنّ الفرق بين الناتج المحلي والناتج القومي هو في بند "صافي دخل عوامل الإنتاج من وإلى الخارج"، أي إجمالي الدخول التي يحصل عليها مواطنوا الدولة من الخارج مطروحاً منها إجمالي الدخول التي يحصل عليها الأجانب من داخل الدولة. لاحظ أخيراً أنّ هذا المبلغ الصافي يمكن أن يكون سالب أو موجب، وهو طبعاً موجب وكبير في حالة فلسطين، ولكنّه سالب وكبير أيضاً في حالة دول النفط الخليجية على سبيل المثال.

  • من "الإجمالي" إلى "الصافي"

ما يميز الناتج أو الدخل المحلي الإجمالي عن الصافي هو قيمة الاهتلاكات، أي الانخفاض في قيمة رؤوس الأموال (المكائن والمعدات والبنى التحتية من مباني وطرق وجسور وغيرها) نتيجة الاستعمال خلال السنة. ويعادل هذا قيمة الاستثمارات اللازمة للحفاظ على مستوى إجمالي التكوين الرأسمالي في البلاد على حاله في نهاية العام كما في مطلعه.

الخاصية الدورانية للحسابات القومية

الناتج المحلي الإجمالي هو مقياس للتدفق وليس مقياساً للمخزون أو التراكم (مثل مخزون رأس المال الذي يقيس قيمة رأس المال المتراكمة خلال سنوات متعددة). ويوضّح الشكل 1 الطبيعة الدورانية لهذا التدفق، كما يفسر سبب وكيفية تطابق قيم الناتج المحلي الإجمالي عند أخذه كإنتاج أو كدخل أو كإنفاق: إنّ قيمة ما يتم إنتاجه واستيراده يجب أن تتطابق مع قيمة ما يتم شراؤه محلياً وتصديره.

في الحلقة المغلقة بين الإنتاج من جهة والاستهلاك والاستثمار من جهة أخرى، التي يعرضها الشكل 1، هناك ثلاث قنوات يتسرب منها الدخل إلى خارج الحلقة: قناة الضرائب الصافية (ض) التي تعادل الضرائب مطروحاً منها المساعدات التي تسحبها الحكومة، قناة الادّخار (خ)، أي المبالغ التي تستقطع من الدخل ولا يتم إنفاقها، وقناة المدفوعات للمستوردات (س)، أي الجزء من الدخول الذي ينفق على المستوردات والذي يتسرب إلى خارج البلاد. التسرب من هذه القنوات الثلاث يعني أنّ الإنفاق المحلي الفعلي لم يعد كافياً لإمتصاص الإنتاج المحلي. ولكن لحسن الحظ هناك بالمقابل ثلاث قنوات حقن في النظام أيضاً. وهذه القنوات هي الإنفاق الحكومي (ح) الذي يعيد ضخ الضرائب الصافية، والاستثمار (ث) الذي يعيد ضخ الادخارات، والتصدير (ص). واضح إذن أنّ إغلاق الحلقة يتطلب أن يكون (ض+خ+س = ح+ث+ص). أو (ث- خ)+ (ح- ض) = (س- ص). بكلمات أخرى، ان التوازن يقتضي أن يتم تمويل العجز المحلي (عجز الادّخار وعجز الموازنة العامة) بفائض مطابق في الميزان الجاري لميزان المدفوعات (أي بالدين وبالمساعدات الخارجية).

 

شكل 1: الحلقة الدورانية لإنتاج واستخدام الناتج المحلي الإجمالي

 

الناتج المحلي والدخل القومي الإجمالي والدخل القومي التصرفي الفلسطيني

هناك عدد من النواقص التي يعاني منها مؤشر الناتج المحلي الإجمالي (أنظر التعريف القادم لمكافئ القيمة الشرائية لمزيد من المعلومات حول نواقص المؤشر). وهذه النواقص تحول دون أن يكون المؤشر مقياساً أميناً للرفاه أو لمستوى الحياة في البلد المعني. إنّه فقط مؤشر تقريبي لقيمة الموارد المتاحة في الاقتصاد، والتي يمكن توظيفها مبدئياً من أجل خلق دولة الرفاه.

 

ولكن مؤشر الناتج المحلي الإجمالي قاصر في حالة فلسطين حتى عن إعطاء الفكرة التقريبية تلك عن الموارد المتاحة. ذلك لأنّه لا يأخذ في الحسبان القيمة الموجبة والعالية لصافي دخل عوامل الإنتاج من الخارج، والذي بلغ في فلسطين نحو 1,217 مليون دولار في 2015. وكما يوضّح الجدول 2 فإنّ إضافة هذا البند تجعل الدخل القومي الإجمالي لفلسطين أعلى من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 13.5%. وتجدر الإشارة إلى أنّ أكثر من 97% من صافي دخل العوامل هذا جلبته قوة العمل الفلسطينية العاملة في الخارج (في إسرائيل أساساً)، في حين جاء الباقي من صافي دخل الملكية في الخارج. وهذا بدوره يفسر لماذا تحقق الجزء الأكبر من صافي دخل العوامل من الخارج في الضفة الغربية، في حين كانت حصة قطاع غزة هامشية للغاية في ذلك العام.

 

الجدول 2: الناتج المحلي الإجمالي والدخل القومي الإجمالي والدخل القومي التصرفي (مليون دولار 2015)

فلسطين

قطاع غزة

الضفة الغربية

 

12,673

3,134

9,539

الناتج المحلي الإجمالي (أسعار السوق)

2,814

1,686

3,606

نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي (دولار)

1,712

16

1,696

صافي دخل عوامل الإنتاج من الخارج

14,385

3,150

11,235

الدخل القومي الإجمالي

1،421

586

835

صافي التحويلات دون مقابل

15,806

3,735

12,071

الدخل القومي الإجمالي التصرفي (الدخل الإجمالي المتاح)

3,510

2,010

4,564

نصيب الفرد من الدخل الإجمالي المتاح (دولار)

هذا يعني من ناحية مبدئية أنّ الدخل القومي الإجمالي مؤشر أكثر ملائمة من الناتج المحلي الإجمالي للتدليل على الموارد السنوية المتاحة في الحالة الفلسطينية. ولكن، الدخل القومي الصافي أيضاً يقدّم صورة ناقصة، ذلك لأنّ هذا المؤشر لا يأخذ بالاعتبار صافي "التحويلات دون مقابل" (Unrequited Transfers) التي ترد إلى الاقتصاد من الخارج. وهذه التحويلات تتضمن المساعدات والهدايا التي يرسلها المقيمون في الخارج لأهلهم وأصدقائهم داخل البلد، إضافة إلى المساعدات والهبات من الخارج للمؤسسات والهيئات الخاصة والعامة. ولقد بلغت قيمة صافي هذه التحويلات إلى فلسطين 1,421 مليون دولار في 2015. وعند إضافة هذا المبلغ ينتقل الدخل القومي الإجمالي إلى ما يعرف باسم الدخل القومي الإجمالي التصرفي (Disposable) وهو مؤشر أكثر ملائمة من المؤشرين الآخرين للتعبير عن مبلغ الموارد المتاحة في الاقتصاد. وتزيد قيمة الدخل القومي التصرفي الفلسطيني عن قيمة الناتج المحلي الإجمالي بمقدار يقرب من 25%، سواء بالنسبة إلى المبلغ الكلي أو لنصيب الفرد من الدخل.

(نشرت في المراقب الإقتصادي، العدد 52، سنة 2018).