دور النماذج والنظريات الاقتصادية في تفسير أسباب التقلبات الاقتصادية

دور النماذج والنظريات الاقتصادية في تفسير أسباب التقلبات الاقتصادية

The Role of Models in Explaining the Economic Flactuations

تعرضنا في السابق للعلاقة العضوية بين "الدورة الاقتصادية" و"النمو الاقتصادي" من حيث أن الأولى هي ظاهرة تهيمن على النشاط الاقتصادي في المدى القصير والمتوسط، بينما تخص ظاهرة النمو تطور الاقتصاد على المدى الطويل. ومن الطبيعي أن يكون لفترة التوسع والازدهار في الدورة الاقتصادية دور تعزيز مسار النمو وتسريع وتيرته، بينما تعمل فترة الانكماش والركود على إعاقة عملية النمو وتقليص معدلاته.

الكساد العظيم

علينا أن ندرك أننا نعيش في عالم يوجد فيه دوماً احتمال حدوث ركود اقتصادي شديد يستمر لفترة طويلة يتعطل فيها النمو لسنوات طوال؛ فبتراجع مستوى المعيشة تستفحل البطالة عن العمل وتتوسع مساحة الفقر. ومن المعروف أن كل ذلك قد حصل بالفعل في سنوات "الكساد العظيم" (Great Depression) التي استمرت طوال عقد الثلاثينات من القرن الماضي، وشملت كل بلدان العالم. وقد بلغ من فداحة تلك لأزمة الاقتصادية أن وصفها أحد المؤرخين بأنها أسوأ كارثة أصابت الإنسانية في فترة السلم منذ حدوث طاعون "الموت الأسود" (Black Death)، فلقد بدأ الانكماش الاقتصادي في الولايات المتحدة بعد انهيار سوق الأوراق المالية في نيويورك في 29 أكتوبر 1929، واستفحل تراجع النشاط الاقتصادي إلى حدود منخفضة جداً في فترة 1931-1933. واستمر الركود طيلة سنوات العقد ولم يتم تجاوز الأزمة إلا في العام 1942. وبالنسبة لمعدل البطالة عن العمل، فبينما كان قبل الأزمة يساوي 3.2% (في العام 1929)، ارتفع واستمر مرتفعاً لعقد كامل من الزمن حتى بلغ متوسطه طوال سنوات الثلاثينات 18%. ووصل إلى 25.2% في العام 1933، ولم ينخفض تحت 10% إلا في العام 1941. وكان الوضع مشابهاً لذلك في معظم البلدان الأوروبية. وهناك شبه إجماع بين المؤرخين على أن أزمة "الكساد العظيم" كانت من العوامل الهامة التي ساعدت على خلق التربة الخصبة التي نمت وترعرعت فيها الأنظمة الفاشية والنازية في إيطاليا وألمانيا وإسبانيا والتي قادت العالم إلى الحرب العالمية الثانية.

الأزمة المالية العالمية

أما بالنسبة للزمن المعاصر، فالعالم شهد أزمة اقتصادية كبرى بدأت في أواخر العام 2007 في الولايات المتحدة إثر تحطم فقاعة الأسواق العقارية، وما نتج عنها من انخفاض هائل في أسعار العقارات والأدوات المالية المرتبطة، والذي أدى بدوره إلى انهيار بعض البيوت المالية الكبرى في نيويورك وخسارة الملايين من أصحاب الأصول العقارية والمالية لآلاف المليارات من الدولارات. وقد أسهم ذلك في تراجع الطلب الفعلي العام (Aggregate Effective Demand)، وبالتالي تراجع النشاط الاقتصادي وارتفاع معدل البطالة عن العمل إلى حدود 10%، بينما كان قبل اندلاع الأزمة أقل من 6%. كذلك، ارتفع معدل البطالة في دول الإتحاد الأوروبي، ولكن بنسبة أقل من ارتفاعه في الولايات المتحدة وذلك لأنه كان في مستوى عالٍ قبل الأزمة. أما المنطقة العربية التي كان متوسط معدل البطالة فيها هو الأعلى بين مناطق العالم الأخرى قبل الأزمة (كان متوسطه في العام العربي 11.8% بينما كان المتوسط العالمي حوالي 6%)، فقد ارتفعت فيها معدلات البطالة بتأثير الأزمة. وفي العام 2010، كان هناك خمسة دول عربية من بين الخمسة عشر دولة ذات أعلى مستوى بطالة عن العمل في العالم.

الأسباب وراء التقلبات الإقتصادية

عندما نحاول التعرف على أسباب الأزمات فإننا لا نحصل على جواب واحد بل عدة أجوبة، ذلك لأن كل إجابة تمثل المنطق الخاص بنظرية اقتصادية معينة. وهذا الوضع ليس خاصاً بهذه الأزمة بل هو وضع عام يخص موضوع التقلبات الاقتصادية. فعند البحث في أسباب الدورة الاقتصادية بشكل عام، نجد أن هناك أكثر من نظرية تزعم أنها تحدد أسباب الدورة.  وهذا الوضع يختلف بشكل كبير عن موضوع "النمو الاقتصادي" الذي تعرضنا له في السابق. إذ فيما يخص "النمو الاقتصادي"، لا يوجد خلاف حاد بين النظريات التي تحدد أسباب النمو، كما هو موجود بين نظريات التقلبات الاقتصادية، وذلك لأن كل واحدة من نظريات النمو تُركّز على أحد عوامل النمو دون أن تناقض النظريات الأخرى التي تُركز على عوامل نمو أخرى. ولكن الوضع مختلف بالنسبة لنظريات التقلبات الاقتصادية، حيث أن ما تعرضه أحد النظريات كسبب رئيسي لحدوث الدورة الاقتصادية يتعارض أحياناً بشكل تام مع السبب الذي تعرضه نظرية أخرى. بمعنى أن قبول منطق أحد النظريات يعني بالضرورة رفض منطق نظرية أخرى. وإذا جاز لنا استعمال المصطلحات الاقتصادية في هذا المجال، فمن الممكن القول بان العلاقة بين نظريات النمو المختلفة تشبه إلى حد بعيد علاقة التكامل الموجودة بين بعض السلع، بينما تشبه العلاقة بين نظريات التقلبات الاقتصادية، علاقة الإحلال الموجودة بين بعض السلع الأخرى. ولهذا، يبدو من الضروري قبل أن نخوض في دراسة نظريات التقلبات الاقتصادية أن نحاول الإجابة على الأسئلة الثلاثة التالية:

  • إذا كان هناك نظريات مختلفة، فلماذا نلجأ إلى "الأسلوب النظري" لمعرفة أسباب التقلبات الاقتصادية؟ أليس هناك "أسلوب عملي" لتحليل الحقائق الموضوعية الخاصة بكل طور من أطوار الدورة الاقتصادية في الظرف المحدد الذي يحدث فيه، والخروج بنتائج تفسر أسباب حدوث ذلك الطور؟
  • ما هي الأسباب الموضوعية لوجود خلاف دائم بين الاقتصاديين في مواضيع التقلبات الاقتصادية؟
  • ما هو الخلاف الأساسي بين كل النظريات التي تفسر أسباب التقلبات الاقتصادية وما هي الخلفية التاريخية لنشوء ذلك الخلاف؟

سنعمل في التالي على مناقشة هذه الأسئلة والإجابة عليها. ونعرض في الحلقة القادمه الى الخطوط العريضة للتيارين الرئيسيين في نظريات التقلبات الاقتصادية؛ أي تيار المدرسة الكلاسيكية وتيار المدرسة الكينزية.

دور النظرية

إن التوصل إلى معرفة أسباب حصول التقلبات الاقتصادية من انكماش أو توسع في النشاط الاقتصادي يقتضي بالضرورة وجود فهم شامل للطريقة التي تتم فيها ممارسة النشاط الاقتصادي في الأسواق المختلفة. ذلك يعني وجود معرفة كاملة لدور العوامل التي تتحكم في تصرفات المشتركين في عمليات البيع والشراء، وفي عمليات التوظيف والعمل، وفي عمليات الإقراض والاستدانة ...إلخ، وهذا يعني وجود إلمام شامل بمئات أو الآلاف العوامل التي تتحكم في تصرفات ملايين الأسر، وملايين العمال، وملايين الشركات. وهذا طبعاً مستحيل وفوق طاقة أي باحث أو أي مجموعة من الباحثين، كما أنه غير مفيد لأن رصد تصرفات الأفراد والعوامل التي تؤثر في تلك التصرفات لا يقود في النهاية إلا إلى رؤية الأشجار فقط، وعدم رؤية الغابة. وهذا يعني بكل بساطة أنه من المستحيل ومن غير المفيد الإلمام بكل العوامل التي تتحكم في الواقع الحقيقي للاقتصاد. ولذلك، فإن عملية البحث في قضايا الاقتصاد الكلي تعتمد على استخدام أسلوب التنظير، أو التجريد، أي التركيز على بضعة عوامل يعتقد الباحث أنها من أهم العوامل المؤثرة بشكل رئيسي في الموضوع المعين الذي يهتم فيه، ثم صياغة إطار تحليلي لعلاقات تلك العوامل ببعضها البعض وعن طريق التحليل المنطقي يتم طرح الأسئلة والإجابة عليها ضمن ذلك الإطار.

التماذج الإقتصادية: هذا الإطار التحليلي هو ما يسمى بالنموذج الاقتصادي (Economic Model)، وهو بالتأكيد ليس تصويراً للواقع الاقتصادي الحقيقي، وإنما هو عبارة عن تجريد نظري لذلك الواقع. إنه يختلف عن الواقع الحقيقي تماماً كما تختلف الخارطة عن الصورة الفوتوغرافية. وكما أن سائق السيارة المسافر إلى منطقة لا يعرفها يصطحب معه خارطة للمنطقة وليس صوراً فوتوغرافية لها، كذلك فإن الذي يريد التعرف على أسباب واقع اقتصادي معين فإنه يلجأ إلى "نموذج اقتصادي مناسب" وليس إلى "واقع الاقتصاد الحقيقي". ومن البديهي أن يكون هناك نماذج أفضل من نماذج أخرى في تفسير وضع معين، ففائدة أي نموذج نظري تتناسب طرداً مع مدى تطابق تنبؤات ذلك النموذج مع الذي يحدث في الواقع. ومن هنا، يتضح لنا حقيقة وضع الذين يزعمون أنهم لا يستعملون الأسلوب النظري وإنما يتعاملون مع الحقائق الموضوعية للواقع الاقتصادي، فهم في الواقع يخدعون أنفسهم لأن انتقائهم لتلك "الحقائق الموضوعية" وفهم "دلالاتها" وتقدير "أهميتها" لا يتم إلا عبر توظيف مفاهيم خاصة بنظريات معينة، حتى وإن كانوا أنفسهم أحياناً غير واعين بذلك.

وهكذا، نرى أنه سواءً أكان بطريقة واعية أو بطريقة غير واعية، فلا بد للباحث من استخدام النماذج النظرية حتى يتسنى له تكوين فهم محدد عن الواقع الاقتصادي المعقد.

 

 أسباب وجود نظريات متباينة في مواضيع الاقتصاد الكلي

رأينا أنه ليس هناك خيار، فأسلوب التنظير هو الأسلوب الوحيد المناسب لدراسة أوضاع الاقتصاد. وبشكل عام، فالنظريات والنماذج في العلوم الاجتماعية تقوم بذات الدور الذي تقوم به المخابر في العلوم الطبيعية ولكن مع وجود فارق كبير بين الاثنين. فبينما تتم تجارب العلوم الطبيعية في بيئة يتم فيها عزل الظاهرة المدروسة عن الظواهر الأخرى وبشكل يمكن فيه اكتشاف المتغيرات المحددة التي تؤثر في الظاهرة بشكل محض وبدون تأثير متغيرات وعوامل أخرى، فإن ذلك غير متوفر في العلوم الاجتماعية. حيث أنه لا يمكن عزل أي ظاهرة عن المحيط الذي تتواجد فيه، كما أن الظاهرة ذاتها تتطور مع الزمن، وبالتالي فإن المتغيرات الهامة التي توثر فيها تتغير وتتغير أهميتها. وفي أحيان كثيرة، يتم ذلك التغيير ببطء وتحت السطح ولا تظهر تداعياته إلا بعد مرور عدة سنوات. ولهذه الأسباب، فإن التجارب التي يقوم فيها الباحث من خلال استخدام نظريات ونماذج العلوم الاجتماعية ما هي في الواقع إلا "تجارب فكرية" تخضع لكل العوامل التي تشكل البيئة الفكرية للمكان والزمان الذين تتم فيهما صياغة تلك النظريات والنماذج.

المدارس الفكرية. وبما أن البيئة الفكرية لأي مجتمع وفي أي زمن تضم أكثر من تيار وأكثر من اتجاه، فمن الطبيعي وجود أكثر من تيار وأكثر من اتجاه في موضوع الاقتصاد الكلي. وعلى سبيل المثال، في أي مجتمع يوجد دوماً تياران؛ يتمسك الأول بالوضع الراهن ويقاوم أية دعوة للتطوير والتغيير، فيما يتضايق الآخر من استمرار الوضع الراهن ويعمل على استبداله بوضع أكثر حداثةً وتقدماً. وليس من الضروري أن يكون الخلاف بين التيارين ناجم عن اختلاف في المصالح بين المستفيد من استمرار الوضع القائم والمتضرر منه، فهناك أيضاً الخلاف في التوجهات الثقافية الذي يلعب دوراً هاماً إلى جانب تناقض المصالح في تحديد الرؤى المختلفة تجاه الأمر الواقع. ومن الممكن القول أنّ اختلاف النظرة إلى الأمر الواقع هو من أهم العوامل التي تفسر وجود اختلاف في تيارات الفكر الاقتصادي وخصوصاً في العصور الحديثة التي ابتدأت مع الثورة الصناعية وحلول النظام الرأسمالي مكان النظام الإقطاعي في أوروبا. ومع نهاية القرن التاسع عشر، تكرس وجود مدارس فكرية عديدة ولكنها تتمحور حول خلاف جوهري بين تيارين رئيسيين: تيار المدرسة الكلاسيكية التي تريد الاحتفاظ بالنظام الرأسمالي، والمدرسة الراديكالية التي تريد تغيير النظام الرأسمالي وإقامة نظام اشتراكي بديل.

المدرسة الكلاسيكية. سوف نحصر اهتمامنا هنا في تيار المدرسة االكلاسيكية التي تقوم على أساس الفرضيتين التاليتين:

  • فرضية "الأسواق الحرة"، ومضمونها أن الأسعار والأجور في الأسواق غير المقيدة تكون قادرة دوماً على التكيف السريع مما يؤدي إلى تحقيق وضع التوازن، أي تحقيق المساواة بين كمية العرض وكمية الطلب في كل سوق.
  • فرضية "اليد الخفية"، وهي تعود إلى آدم سميث ومضمونها أنه في حالة وجود أسواق حرة تسمح لكل فرد في ممارسة نشاطه الاقتصادي بهدف تعظيم منفعته الخاصة، فإن ذلك يؤدي بشكل تلقائي إلى تعظيم المنفعة العامة أيضاً.

ويترتب على هاتين الفرضيتين مقولتين هامتين تشكلان ركيزتي المدرسة الكلاسيكية. المقولة الأولى تؤكد أن مشكلة الكساد (أو مشكلة التضخم) تحدث عندما تفقد الأسواق وضع التوازن. ولهذا، فإن المشكلة لا تستمر إلا للوقت الذي تحتاجه آليات الأسعار والأجور لاستعادة وضع التوازن في الأسواق، وهو وقت قصير ما دامت الأسواق حرة وليس فيها قيود تحد من سرعة حركة الأسعار والأجور في التكيف مع المستجدات. أما المقولة الثانية، فتؤكد أن على الدولة تقليص دورها في الاقتصاد إلى الحد الأدنى الذي لا يتعدى مجال إنتاج بعض السلع العامة (الدفاع والأمن)، على أساس أن أي تدخل للدولة في الاقتصاد يؤدي إلى حدوث تشوهات في عمل الأسواق يحد من سرعة تكيفها مع المعطيات الجديدة، وبالتالي يضعف قدرة اليد الخفية على تحقيق أهداف الصالح العام.

المدرسة الكينزية. واجهت المدرسة الكلاسيكية تحد ٍكبير في سنوات "الكساد العظيم" عندما استمر الركود الاقتصادي والمعدل العالي للبطالة عن العمل سنوات عديدة دون أن تتمكن آليات السوق من القضاء على المشكلة أو تخفيف حدتها. أدى ذلك إلى حدوث ثورة في الفكر الاقتصادي أخذت اسم "الثورة الكينزية" نسبة إلى الاقتصادي البريطاني جون ميراند كينز (1883-1946) مؤلف كتاب "النظرية العامة للتشغيل والفائدة والنقد" (1936)، فلقد قدم ذلك الكتاب نظرية جديدة تفسر أسباب حدوث التقلبات الاقتصادية في النظام الرأسمالي وبشكل يتناقض بشكل كامل مع النظرية الكلاسيكية، حيث اعتمدت النظرية الجديدة على الفرضيات الثلاثة التالية:

  • فرضية "عدم استقرار النظام الرأسمالي" التي تؤكد أن حدوث الدورة الاقتصادية هو من طبيعة النظام الرأسمالي الذي يتعرض بشكل دائم لصدمات أو هزات اقتصادية. وذلك لأن النشاط الاقتصادي يعتمد بشكل أساسي على حجم إنفاق القطاع الخاص على الاستثمار الذي يعتمد بدوره على توقعات رجال الأعمال بالنسبة للمستقبل، وهي توقعات تتأرجح في كثير من الأحيان، بين التفاؤل المفرط والتشاؤم المفرط.
  • فرضية "عدم مرونة الأسعار والأجور" التي تنفي قدرة الأسعار والأجور على التكيف السريع مع المستجدات في الأسواق. فالفرضية ترى أن التكيف في المدى القصير لا يتم عبر تغيير الأسعار والأجور، ولكن عبر تغيير التشغيل والإنتاج، وأن التغيير التكيّفي للأسعار والأجور لا يتم إلا في المدى الطويل. بمعنى أن التكيف في الأسواق يحدث بواسطة "تغيير الكميات" في المدى القصير، وعبر "تغيير الأسعار" في الأمد الطويل.
  • فرضية "الطلب الفعال" الذي يسمى اليوم "الطلب الكلي". والفرضية تعني أن الطلب العام في الاقتصاد (أي مجموع الاستهلاك والاستثمار والإنفاق الحكومي وصافي التصدير) هو الذي يحدد الناتج الكلي، وبالتالي يحدد مستوى التشغيل ومعدل البطالة. وفي الحالات التي يكون فيها الطلب العام أقل من المناسب للوصول إلى مستوى الناتج الذي يحقق التوظيف الكامل لليد العاملة، يستقر الاقتصاد في وضع توازني مع وجود معدل بطالة عالٍ. وهذا يتناقض بشكل كامل مع منطق النظرية الكلاسيكية التي تعتبر أن البطالة عن العمل لا تحدث إلا قي وضع غير متوازن. وفي مثل هذه الحالات لا يوجد حل لمشكلة البطالة إلا عن طريق زيادة الإنفاق الحكومي، حتى يتم رفع مستوى الطلب العام إلى المستوى الملائم لضمان التوظيف الكامل لليد العاملة.

 

الخلفية التاريخية لتطور فكر الاقتصاد الكلي (1940-2010)

أحدث كتاب”"النظرية العامة" لكينز خلال سنوات قليلة تغييراً جذرياً في الفكر الاقتصادي، حيث أنه شكل مدرسة جديدة تقدم تفسيراً جديداً للتقلبات الاقتصادية يتعارض مع تفسير المدرسة الكلاسيكية. ومع ذلك، ففي مطلع الخمسينات تمكنت المراكز الأكاديمية في بريطانيا والولايات المتحدة من تكوين نموذج نظري جديد يجمع بين المدرستين فيما أصبح يعرف باسم نموذج "التركيبة الكلاسيكية المحدثة" (The Neoclassical Synthesis). وهو نموذج نظرية عامة تحدد آليات النشاط الاقتصادي وفق التوصيف الكينزي في الأمد القصير ووفق التوصيف الكلاسيكي على الأمد الطويل. أي أن عمليات التكيف التي تمارسها المنشآت الاقتصادية، في الحالات التي تكون فيها الأسواق غير متوازنة، تتم عبر" تغيير الكميات" في المدى القصير وعبر "تغيير الأسعار" في الأمد الطويل.

الركود التضخمي والمدرسة النقدية. أصبح نموذج "التركيبة الكلاسيكية المحدثة" النظرية التي تدرّس في معظم الجامعات الأمريكية والبريطانية، والتي يسترشد بها مخططي السياسات الاقتصادية في البلدين منذ مطلع الخمسينات وحتى أوائل السبعينات، وهي الفترة التي يطلق عليها اسم "العصر الذهبي للاقتصاد الكلي". وذلك لأنها كانت فترة نمو اقتصادي متواصلة في معظم البلدان الصناعية. وقد انتهت هذه الفترة في منتصف السبعينات عندما أخذت معظم البلدان الصناعية تعاني من مشكلة الركود والبطالة عن العمل المصحوبة بمشكلة الارتفاع المتواصل للأسعار والتضخم. وكانت هذه المشكلة المزدوجة التي أخذت اسم "الركود التضخمي" (Stagflation) مشكلة جديدة. ففي السابق، كان ركود النشاط الاقتصادي يتسبب في ارتفاع معدلات البطالة عن العمل وانخفاض الأسعار وليس ارتفاعها. وكان من أول ضحايا هذه المشكلة الجديدة هو الإجماع الأكاديمي حول نموذج "تركيب الكلاسيكية المحدثة" الذي لم يكن قادراً على تفسير المشكلة، وبالتالي لم يكن قادراً على وصف حل لها. أدى ذلك إلى فض الإجماع الأكاديمي حول ذلك النموذج في مطلع السبعينات، وظهور تيار قوي في المراكز الأكاديمية الأمريكية والبريطانية معاكس لكل أطروحات المدرسة الكينزية ويعمل على إحياء أطروحات المدرسة الكلاسيكية في تكريس حرية السوق وتقليص دور الدولة في الاقتصاد. وقد كان من أشهر قادة هذا التيار أستاذ الاقتصاد في جامعة شيكاغو ملتون فريدمان (1912-2006)، الذي كان من الأكاديميين القلائل الذين لم يقتنعوا بأطروحات كينز أو أطروحات "تركيبة الكلاسيكية المحدثة" في الخمسينات والستينات. ولقد أخذ التيار الجديد اسم "مدرسة شيكاغو"، لأن بداياته جاءت من أبحاث الأساتذة الملتفين حول فريدمان في كلية الاقتصاد في جامعة شيكاغو، كما أخذ أيضاً اسم "المدرسة النقدية" (The Monetarist school)، وذلك لأن من أهم أسس ذلك التيار هو الاعتقاد بكفاءة السياسة النقدية، وعدم كفاءة السياسة المالية في تحفيز النشاط الاقتصادي قي الأمد القصير. وبغض النظر عن الاسم، فلقد مثل ذلك التيار في تاريخ الفكر الاقتصادي ما عرف على أنه تيار "الثورة المضادة" الذي يريد أن يعود بعقارب الساعة إلى الوراء، وإلغاء كل مفاهيم "الثورة الكينزية" من الفكر الاقتصادي.

 

نظرية التوقعات العقلانية ومدارس الكينزية المحدثة

شهدت كليات الاقتصاد في الجامعات الأمريكية والأوروبية خلال سنوات الثمانينات والتسعينيات ولادة عدة مدارس تبشر بنظريات جديدة. وبشكل عام، يمكن القول أنّ كل واحدة من تلك النظريات قد خرجت إما من عباءة "المدرسة النقدية " أو من عباءة "المدرسة الكينزية"، حيث كان الهدف الواضح لنظريات النوع الأول هو صياغة المبررات النظرية للتوجه العام للمدرسة النقدية في توسيع حرية السوق وتقليص دور الدولة في الاقتصاد، بينما كان هدف نظريات النوع الثاني هو الكشف عن المبررات النظرية التي تستدعي تبني الدولة لدور نشيط في مجال السياسات الاقتصادية.

هذا وقد برز، من نظريات النوع الأول، نظريتان اثنتان. الأولى، هي نظرية "التوقعات العقلانية" (Rational Expectations) التي ترى أن المشاركين في النشاط الاقتصادي يكّونون توقعاتهم بالنسبة للمستقبل على أساس تنبؤات عقلانية تأخذ بالحسبان كل المعلومات المتاحة عن الأوضاع الاقتصادية وليس على أساس استقراء الأوضاع الماضية كما هو الوضع في نموذج "تركيبة الكلاسيكية المحدثة"، وترى النظرية أن الأخطاء التي تنتج عن التوقعات العقلانية يتم تصحيحها بسرعة وبشكل تكون التوقعات بالنسبة للأسعار صحيحة في المتوسط، وكنتيجة لذلك تكون الأسواق دوماً في وضع التوازن. أما النظرية الثانية فهي نظرية "الدورة الاقتصادية الحقيقية" (Real Business Cycles) التي ترتكز على فرضيتين؛ الأولى ترى أن الناتج المحلي الإجمالي هو دوماً في مستواه الطبيعي، أي أن التقلبات التي تحصل بين فترات التوسع والانكماش في الناتج هي تقلبات في المستوى الطبيعي للإنتاج وليست ابتعاداً عنه، (وهذه الفرضية تناقض المفهوم الكلاسيكي والمفهوم الكينزي عن طبيعة التقلبات). وترى الفرضية الثانية أن التقلبات في الناتج الطبيعي في فترات التوسع والانكماش تكون نتيجة صدمات تخص الجانب الحقيقي في النشاط الاقتصادي (كالوضع التقني)، وليس الجانب النقدي.

أما أهم نظريات النوع الثاني، فالنظرية التي ينادي بها " الكينزيون الجدد "The New Keynesians. وتضم الاقتصاديين الذين عملوا على بناء نماذج تصف سلوك المشتركين في النشاط الاقتصادي (في أسواق السلع والخدمات، وسوق العمل، والسوق المالي). وتظهر أسباب التصلب الموجود في حركة الأسعار والأجور المسؤولة عن عدم قدرة الأسواق على استعادة وضع التوازن بسرعة كما هو الوضع في المدرسة الكلاسيكية ومدرسة "التوقعات العقلانية" والنظرية الثانية هي النظرية المسماة "ما بعد كينز" (Post Keynesian)، وتضم الاقتصاديين الذين يعتقدون بأن "تركيبة الكلاسيكية المحدثة" قد شوهت جوهر النظرية الكينزبة الذي تضمنه كتاب "النظرية العامة". ولذلك، فهم يعتقدون أن سبب التقلبات الاقتصادية ليس هو تصلب الأسعار والأجور، كما يعتقد الكينزيون الجدد، بل أن السبب يعود إلى التقلبات التي تحدث في حجم الطلب الفعال (Effective Demand)، التي تعود بدورها إلى صفة "عدم الاستقرار" المتأصلة في طبيعة النظام الرأسمالي، وهي صفة موجودة في المدى القصير والمدى البعيد.

الخلاصة

وبشكل عام، فعلى الرغم من وجود بعض التمايز في النظريات الموجودة داخل كل نوع من هذبن النوعين من النظريات المستجدة، إلا أن ما يجمع النظريات الخاصة بكل نوع هو بالتأكيد أهم مما يفرقهما. ولذلك، يمكن القول إنه بالنسبة لأسباب التقلبات الاقتصادية هناك توجهان؛ التوجه الكلاسيكي الذي يرى أن الاقتصاد الحر قادر على التعامل مع التقلبات الاقتصادية لوحده بمدة قصيرة، وأن تدخل الدولة يؤدي إلى زيادة أضرار تلك التقلبات وليس إلى تخفيضها. والتوجه الكينزي، الذي يرى أنه إذا تم ترك موضوع "التقلبات الاقتصادية" لآليات السوق وحدها، فإن فترات الكساد أو التضخم قد تأخذ وقتاً طويلاً وتلحق أضراراً كبيرة يمكن تجنبها عن طريق تفعيل سياسات الدولة الاقتصادية. وفي الجزء القادم، سنتعرض للخطوط العريضة لهذين التوجهين كما هما في الوقت الراهن، وكيف يفسر كل منهما أسباب الأزمة الاقتصادية الراهنة.

(نشرت في المراقب الإقتصادي، العدد 21، 2009)