التقلبات الاقتصادية- ماهية التقلبات

التقلبات الاقتصادية- ماهية التقلبات

Economic Flactuations

خصصنا الحلقات الأربع الماضية لموضوع النمو الاقتصادي، ووجدنا أن وصول النشاط الاقتصادي إلى مرحلة النمو المستدام يحتاج إلى وقت طويل. حيث أن النمو المستدام لا يتحقق إلا من جراء ارتفاع إنتاجية عوامل الإنتاج المتاحة (وهذا يأتي من التقدم التقني وارتفاع كفاءة المؤسسات). ومن المعروف أن التقدم التقني يحتاج إلى تطور كبير في نوعية وكمية رأس المال البشري الذي يحتاج بدوره إلى استثمار في التعليم والصحة، كما يحتاج إلى تطور كبير في مرافق البحث العلمي الذي يحتاج بدوره إلى استثمار في نشاطات البحث والتطوير (R&D). وإذا كانت كل تلك العمليات من الاستثمار تأخذ وقتاً ليس بالقصير حتى تبدأ في إعطاء المردود الاقتصادي المطلوب، فإن إصلاح المؤسسات (العامة والخاصة) وتحسين كفاءتها وفعاليتها يتطلب وقتاً أطول من ذلك بالتأكيد. ولهذا، فإن على حكومات البلدان النامية التي تخطط للوصول إلى مرحلة النمو المستدام أن تأخذ بسياسة النفس الطويل، وأن تتبنى خططاً تعمل على تحقيق أهداف بعيدة المدى تخص تراكم رأس المال البشري واكتساب تقنيات المعرفة والبحث العلمي، كما تتطلب الإرادة السياسية القادرة على القيام بمهمات الإصلاح المؤسسي. وفي نفس الوقت، فإن علينا أن نلاحظ أن تلك الحكومات لن تصل إلى مرحلة النمو المستدام إذا كرست كل جهودها للعمل على تحقيق الأهداف بعيدة المدى وتجاهلت الأهداف قصيرة الأمد التي تخص البطالة عن العمل، أو التضخم المالي أو عجز ميزان المدفوعات. ففي غضون أسابيع أو شهور تحدث هزات اقتصادية تحرف النشاط الاقتصادي عن مساره حتى يصبح من الصعب، أو من المستحيل، الاستمرار في تحقيق الأهداف بعيدة المدى، إذا لم يتم التعامل مع أهداف قصيرة الأمد التي تخص الإنتاج والتشغيل واستقرار الأسعار. ولذلك، فإن على واضعي خطط التنمية أن يقلدوا قبطان السفينة الذي يوجه سفينته دوماً في اتجاه المدينة التي يريد أن يرسو في مرفأها، وفي نفس الوقت يكون مستعداً أن يتعامل مع العواصف التي قد تهب في البحر وتحرف السفينة عن مسارها.

وهكذا نرى أن ضمان استمرار النمو يحتاج إلى القدرة على التعامل مع التقلبات الاقتصادية، وهو الموضوع الذي نخصص له السلسلة الثانية من "مفاهيم اقتصادية"، والتي نبدأها بالحديث عن ماهية التقلبات ولمحه عن تاريخها ضمن هذه الحلقة.

 

الدورة الاقتصادية (Business Cycles)

إذا قمنا بحساب معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي لبلد ما في فترة زمنية محددة مثل 1900-2000، ووجدنا أن متوسط معدل النمو لتلك الحقبة الزمنية كان 4%، فإننا نستطيع أن ننظر إلى معدل النمو الحقيقي في أي سنة من سنوات تلك الحقبة الزمنية على أنه يتألف من جزأين: الأول يساوي 4% الذي هو معدل اتجاه النمو على الأمد الطويل (Long-run trend)، والآخر يساوي مقدار الانحراف عن 4% ويمثل النمو الناجم عن التقلبات الاقتصادية. وعلى سبيل المثال، فإذا كان معدل النمو الحقيقي في أحد السنوات يساوي 7%، فهذا يعني أن معدل نمو الاتجاه هو 4%، ومعدل نمو التقلب هو 3%. أما إذا كان المعدل الحقيقي هو 2%، فهذا يعني أن معدل نمو الاتجاه هو 4%، ومعدل نمو التقلب هو -2%. وفي المرة الأولى، كان النشاط الاقتصادي في فترة ازدهار وتوسع، أما في الفترة الثانية، فكان النشاط الاقتصادي في فترة انكماش وركود. وفي الأدبيات الاقتصادية، يتم استعمال مصطلح "الدورة الاقتصادية" كمرادف لمصطلح "التقلبات الاقتصادية"، ويشير إلى التغيرات السريعة التي تحصل في النشاط الاقتصادي بين فترة من الازدهار والتوسع، وفترة من الانكماش والركود. ويصاحب التغيرات الحاصلة في حجم الإنتاج تغيرات في حجم التشغيل، وحجم العمالة، وفي معدل البطالة عن العمل، وفي المستوى العام للأسعار.

 

  • مفردات الدورة الإقتصادية. تشتمل الدورة الاقتصادية على فترة توسع وازدهار (Expansion) يتزايد خلالها معدل النمو حتى يصل إلى الذروة (Peak)، كما تشتمل على فترة انكماش وركود (Contraction) يتناقص فيها معدل النمو حتى يصل إلى الحوض (Trough). وتقاس مدة فترة التوسع من وقت الحوض السابق إلى وقت الذروة، كما تقاس فترة الانكماش من فترة الذروة السابقة إلى فترة الحوض. أما مدة الدورة، فإنها تقاس إما بالوقت المنقضي بين ذروتين متتاليتين أو بين حوضين متتاليين. وتحدث الدورات الاقتصادية بشكل متكرر، ولكن ليس بشكل دوري. وبينما تتراوح المدة الزمنية للدورة الاقتصادية في البلاد الصناعية الغنية ما بين السنتين والثمانية، فإن مدتها في البلدان النامية أقل، وتتراوح بين أربع إلى ستة سنوات. بعض المتغيرات الاقتصادية تتحرك في نفس اتجاه حركة الناتج المحلي الإجمالي خلال الدورة، وتوصف بأنها "متساوقة مع الدورة" (Pro Cyclical)؛ كالاستهلاك، والاستثمار، والكتلة النقدية، والتشغيل والأجر الحقيقي. وهناك متغيرات أخرى تتحرك بشكل معاكس لحركة الناتج المحلي الإجمالي خلال الدورة، وتوصف بأنها "معاكسة للدورة" (Counter Cycle)؛ مثل المستوى العام للأسعار. وعادة ما يحدث التغير في الكتلة النقدية بشكل سابق على التغير في الناتج المحلي الإجمالي، ولذلك توصف الكتلة النقدية بأنها متغير "قائد للدورة" (Leading)، بينما يحصل العكس مع التشغيل الذي يوصف بالمتغير "المتخلّف عن الدورة (Lagging).

 

  • تواتر الدورة الاقتصادية. كما ذكرنا، تحدث التقلبات الاقتصادية بشكل متكرر. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، حيث توجد أفضل البيانات الإحصائية الخاصة بالدورات الاقتصادية، فإن 32 دورة اقتصادية حصلت في الحقبة الممتدة من منتصف القرن التاسع عشر وحتى نهاية القرن العشرين، ويبلغ متوسط فترة الدورة حوالي أربع سنوات ونصف. ويظهر من الجدول (1) أن متوسط مدة الدورة قد ازداد في النصف الثاني من القرن العشرين عن النصف الأول، وأن متوسط فترة التوسع والازدهار كانت طوال الحقبة أطول من متوسط فترة الانكماش والركود.

 

 

جدول (1) متوسط فترات الدورات الاقتصادية في الولايات المتحدة الأمريكية (شهور) (1854-2001)

الحقبة الزمنية

عدد الدورات

فترة انكماش

فترة التوسع)

مدة الدورة

1845-1919

16

22

27

49

1919-1945

6

18

35

53

1945-2001

10

10

57

67

1845-2001

32

17

38

55

المصدر: Business Cycles Expansions and Contractions National Bureau of Economic Research: www.nber.org/cycles

(نشرت في المراقب الإقتصادي، العدد 20، 2009)